سركيس نعوم

لا شك في ان التغيير الحكومي الذي اجراه الرئيس نيكولا ساركوزي في فرنسا اخيراً بعد المواجهة القاسية التي حصلت في الشارع بينه وبين جماهير منافسه الحزب الاشتراكي واحزاب يسارية اخرى، الى جماهير الاتحادات العمالية بسبب إصراره على امرار قانون إصلاحي من ابرز بنوده رفع سن التقاعد للموظفين والعاملين - لا شك في ان التغيير المذكور حتّمت القيام به المواجهة المذكورة وذلك لتحقيق هدفين مهمين. الاول، إعادة quot;تلميعquot; صورة الرئيس الفرنسي بعدما كشفت استطلاعات الرأي في بلاده، فضلاً عن التظاهرات المليونية التي سارت ضده في عاصمة بلاده وفي المدن الكبرى فيها، انخفاضاً في شعبيته بحيث بلغت نحو ثلاثين في المئة. والثاني، الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي يعتزم ساركوزي ترشيح نفسه فيها لولاية ثانية، وخصوصاً بعد تأكده في الاسابيع الاخيرة ان خصومه وفي مقدمهم الحزب الاشتراكي سيواصلون توظيف الغضب الشعبي على quot;قانونه الإصلاحيquot;، رغم صدوره رسمياً بعد موافقة مجلسي النواب والشيوخ عليه بغية منعه من الفوز مرة ثانية. وفي هذا الاطار يضع الكثيرون من متابعي الاوضاع الفرنسية عدم إعادة وزير الخارجية (السابق) برنار كوشنير الى الحكومة الجديدة، وإعادة تعزيز الطابع اليميني لعهده وسياسته، وفي الوقت نفسه التأكيد لليمين الفرنسي وتحديداً الديغولي منه انه منه وله، خلافاً للقطيعة التي ادعى منذ انتخابه وأكثر من مرة انه نفذها او سينفذها معه ومع اقطابه الذين كان الرئيس السابق جاك شيراك ابرزهم. وقد تم ذلك بعودة اليمينية الديغولية الى الحكومة الجديدة من خلال الان جوبيه، وربما من خلال وزيرة العدل في الحكومة السابقة اليو ماري وغيرهما.
هل الهدف من التغيير الحكومي الفرنسي الاخير والاشارات التي انطوى عليها شخصي بحت وتالياً داخلي بحت، اي يتعلق بتلميع الصورة الرئاسية والتمهيد لانتخابات التجديد لها؟
يقول المتابعون المشار اليهم للاوضاع الفرنسية ان الهدف المذكور اساسي جداً وقد تكون له اولوية مهمة على ما عداه من اهداف. لكنهم يلفتون الى وجود امور اخرى يريد الرئيس ساركوزي تحقيقها من خلال التغيير الحكومي الاخير، تتعلق اجمالاً بدور فرنسا في السياسة الدولية سواء داخل الاتحاد الاوروبي او مع روسيا الاتحادية او مع الولايات المتحدة او مع الصين. وهو دور عانى الكثير من الضعف منذ بداية عهده الرئاسي وخصوصاً في ظل تمسكه بموقف الانحياز الى اسرائيل ظالمة كانت أم مظلومة والذي تحوّل سياسة فرنسية عامة. وكذلك في ظل اشهاره اميركيته او ميله العميق الى اميركا رغم بعض الاختلافات معها. ويضيفون ان تغييراً ثانياً يريد ساركوزي تحقيقه من خلال التغيير الحكومي هو استعادة دور فرنسا القوي والمتوازن الى حد كبير في الشرق الاوسط الملتهب من زمان بسبب الصراع العربي ndash; الاسرائيلي، والذي ازداد التهاباً بحيث صار يهدد باندلاع حريق واسع يشمل المنطقة كلها، بعد اندلاع المواجهة الايرانية ndash; الاميركية منذ عقود وتفاقمها بسبب الملف النووي الايراني. وفي التغييرين المشار اليهما اعلاه، يجمع المتابعون انفسهم، أن ساركوزي يحتاج الى الديغولية والى رجالها، ويحتاج الى إحيائها او بالاحرى الى بث روح المقاومة والمواجهة فيها. ذلك انها هي التي ميّزت فرنسا عن شقيقاتها الاوروبيات لجهة التمسك باستقلالية معينة تجاه اميركا سواء في موضوع حلف شمال الاطلسي او في موضوع اسرائيل وصراعها مع العرب.
هل ينجح ساركوزي في تحقيق اهدافه المشار اليها اعلاه؟
الجزم بفوزه بولاية ثانية في قصر الاليزيه ليس منطقياً اليوم. فالوقت الفاصل عن الانتخابات لا يزال طويلاً نسبياً. ولا احد يعرف ماهية التطورات التي قد تحصل. والجزم باستعادة فرنسا موقعها الدولي والاوروبي والشرق الاوسطي ليس سهلاً. فالازمة الاقتصادية التي ضربت اميركا والتي يبدو انها انتقلت الى اوروبا قد تعزز دور فرنسا اذا كان اقتصادها قوياً فعلاً، واذا كانت ممارساتها الاقتصادية والنقدية والحكومية الفعلية مطابقة للقواعد والاصول المتفق عليها اوروبيا ودولياً. لكنها قد تقضي على هذا الدور اذا صارت فرنسا نفسها في حاجة الى المساعدة. اما في موضوع دورها الشرق الاوسطي فلا بد من الاشارة الى ان مشروعها لحل ازمة الشرق الاوسط لم يُقبَل من غالبية اللاعبين الاقليميين والدوليين، فضلاً عن أن مشروع الاتحاد المتوسطي لا يزال يتخبط لأسباب عدة اهمها الصراع العربي ndash; الاسرائيلي. لكن ذلك لا يعني ان ساركوزي قد يعجز عن إيجاد نافذة يدخل منها الى دور شرق اوسطي. وقطعاً لن تكون ايران هذه النافذة لأن الود معها مفقود. ولن تكون السعودية هذه النافذة ايضاً لأن الكيمياء لم تركب بين ساركوزي وحكامها لأسباب عدة، اهمها quot;تشاطرهquot; وتصرفه مروّجاً لشركات وصفقات تفيد فرنسا ولا تفيد رئيساً لها. ولن تكون النافذة ايضاً اسرائيل او الفلسطينيين لأن الاولى تصر على quot;اميركيةquot; المسعى والحل رغم انحيازه اليها، ولأن الفريق الثاني يعرف عجزها عن تقديم وعود جدية قابلة للتنفيذ. إلا ان هذه النافذة موجودة الآن رغم صغرها. وهي لبنان الذي يشغل العالم حالياً بسبب quot;المحكمة الدوليةquot;، والذي يشغله منذ سنوات بسبب الدور الاول لـquot;حزب اللهquot; فيه، والذي قد يشغله مستقبلاً بسبب انفجار الصراعات فيه سواء بين ابنائه على تناقضهم او بينه وبين اسرائيل او بين اطراف فيه وجهات اقليمية هي حليفة لها.
لكن هل ينجح لبنان بالجهات المتدخلة في شؤونه من خارج، وبمشكلاته المستعصية في الداخل، في ان يكون quot;الساحةquot; التي تمكن فرنسا من ممارسة دور مهم يُلمّع صورة رئيسها ويسهّل له البقاء في الاليزيه؟