عرفان نظام الدين


مهما حاول العطّار الأميركي باراك أوباما، ومهما أخذ وأعطى، فإنه لن يفلح في إصلاح ما أفسده الإسرائيليون خلال أكثر من 60 عاماً، تمادوا خلالها في تخريب السلام حتى بلغوا ذروة الإجرام خلال السنوات الأخيرة.

فلا الإغراءات، ولا الضمانات الخطية، ولا عروض الترغيب المتمادية وهمسات الترهيب الخافتة والخجولة، يمكن أن تغيِّر ما في العقل الصهيوني المجبول بالمكر والخبث والمناورة واللفّ والدوران والتآمر والنهم في التهام المزيد من الأراضي وانتهاك المزيد من الحقوق المشروعة.

فهذا العقل الشرير، المتمثل في شخصية laquo;تاجر البندقيةraquo; لشكسبير، لا يعرف الشبع ولا الارتواء، ولا يتنازل عن جشعه ومطامعه وضربه بكل القيم والشرائع والقوانين والحقوق عرض الحائط، فهو يأخذ ويطالب، ويضم ويخطط لمرحلة ضم تالية، ويهوّد ويبني مستعمرات أخرى لتهويد أراض إضافية، ويتوسع ثم يرسم خرائط مخططات التوسيع المستقبلية، فكلما قلتَ له خذ قال هاتِ، وكلما قدمتَ له تنازلاً طلب تنازلات أخرى، مع شروط جديدة، من دون أن يقدم أي تنازل، شكلي أو صوري.

كل هذا معروف وواضح وجلي لكل من يتابع مجريات الأحداث في المنطقة منذ نكبة فلسطين وقيام دولة إسرائيل عام 1948، ولا أعتقد ان قادة العالم، والولايات المتحدة بالذات، لا يدركون ذلك ولا يفهمون خفايا المواقف الإســـــرائيلـــية التي تحولت إلى حقائق دامغة وأساليب مكشوفة لا تخفى على أحد، لأنها لا تحتاج الى شرح أو تفسير أو تبرير.

لكن المشكلة الحقيــــــقية تكمن في الإدارات الأميركية المتوالية، وفي السياسات المائعة، والهروب من مواجهة الواقع، ليس لمصلحة العرب، ولا من أجل عيون الشعب الفلسطيني، بل من أجل مـــصالح الولايات المتحدة الحيوية، ولأجل عيون الشعب الأميركي الرازح تحت نير الأزمــــات الاقتصادية والمنصاع لرغبات الطمع الصهيوني التي لا حدود لها، والساكت عن laquo;الخُوّةraquo; المـــــفروضة عليه كل عام لدفعها إلى إسرائيل من دون أي وجه حق، وعلى حساب لقمة عيش الطفل الاميركي المغلوب على أمره. أكثر من تريــــــليون دولار صُرفت على إسرائيل، وأكثر منها خسرتها أميركا، بسبب عدم حسم أمورها وفرض إرادة السلام وتطبيق قرارات الشرعية الدولية ووضع حدّ للاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية الأخرى وإعادة الحـــقوق الشرعية للشعب الفلسطيني المشرد والمحكوم بالحديد والنار والظلم والجور.

ورغم هذه الحقائق الجليَّة استمرت دوامة المواقف المائعة، وتواصلت فصول المسرحية الهزلية المضحكة ndash; المبكية: جهود أميركية للحل تقابَل بطلب تنازلات من العرب والفلسطينيين، وبتعنت إسرائيلي وضغوط على الإدارة وشن حملة شعواء من شقين: إضعاف الرئيس وإرهاب الداعين إلى حل الأزمة وتكبيل أيدي الساعين إلى السلام، ثم فرض شروط قاسية ومطالب تعجيزية، وفق عملية ابتزاز دائمة تهدف إلى استغلال الموقف للحصول على مزيد من الأموال والضمانات والأسلحة والطائرات.

وكان يتردد من قبل أن إسرائيل هي الطفل المدلل للولايات المتحدة بسبب الرضوخ لمطالبها وشروطها وعدم معاقبتها على جرائمها، إلا ان التجارب علمتنا أن هذا الطفل يختفي وراء وحش كاسر يسيطر على مفاصل السياسة والإدارة والكونغرس والإعلام والمال ويتحكم بمراكز القرار.

فرغم الانتقادات الموجَّهة للإدارة الأميركية، فإنه لا بد من الاعتراف بأنها حاولت مراراً وتكراراً الخروج من النفق المظلم واجتراح حلول للأزمة ومحاولة إحلال السلام، من مبادرات نيكسون وفورد وكارتر، إلى ريغان وبوش الأب وكلينتون، وحتى بوش الابن، الذي كان أول من أعلن تأييد قيام دولة فلسطينية مستقلة، لكن زلزال 11 أيلول (سبتمبر) نسف مبادرته فجرى ما جرى في العراق وأفغانستان وفلسطين والعالم، الذي تحول عن القضية إلى حرب وهمية على الإرهاب.

وكل من تابع الرئيس أوباما في سنتي حكمه يعترف بأنه حاول تحريك الجمود وكسر الجليد لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، لكنه كان خجولاً في تحركاته، مقيَّداً في قدرته على اتخاذ القرارات الحاسمة، مكبَّلاً من داخل إدارته وخارجها، في الكونغرس وغيره، إلى أن جاءت الانتخابات النصفية لتوجه إليه وإلى جهوده ضربة موجعة شلَّت حركته وضغطت على إدارته بعد سيطرة الجمهوريين بجناحهم المحافظ المؤيد لإسرائيل على مجلس النواب وقرارات الكونغرس. هذا الواقع يخفف من صرخات لوم أوباما نفسه ويدعو البعض الى الدعوة لمساعدته وتسهيل مهمته بالقبول باستئناف المفاوضات رغم الصلف الإسرائيلي والتعنت في التوسع الاستعماري الاستيطاني، وهو ما حدث فعلاً خلال مهلة العام ثم الأشهر الثلاثة والشهر الإضافي، وأخيراً طلب مهلة الثلاثة أشهر الإضافية.

إلا ان مجريات الأمور لا تبشِّر بالخير، لأن إسرائيل لن تتراجع عن تعنتها ومؤامراتها، لا في ثلاثة أعوام ولا حتى في ثلاثة قرون، وهذا ما كان يجب على الإدارة الأميركية أن تدركه قبل إعطاء صيغة الضمانات، أو صفقة التخاذل الخطية التي حصلت إسرائيل بموجبها على ما تريد: بالنسبة للاستيطان في القدس، ويهودية الدولة، ومساعدات مالية، وصفقة طائرات laquo;أف 35raquo; بقيمة 3 بلايين دولار، وعدم مطالبتها بوقف الاستيطان بعد انتهاء المهلة، وشروط وإغراءات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.

ويحاول نتانياهو خداع العالم، أو الإسرائيليين بالذات، عبر الإيحاء بأنه نجح في ابتزاز الولايات المتحدة وحصل منها على كل شيء مقابل لا شيء، سوى 90 يوماً تنتهي بلمح البصر، ثم الزعم بأن السلام لا يمكن أن يتحقق قبل مضي فترة انتقالية تمتد عشر سنوات تقام خلالها دولة فلسطينية بحدود موقتة، مع تأجيل ملفّي القدس واللاجئين والحدود واستئجار غور الأردن لمدة 40 عاماً، مما يعني حكماً إكمال فصول المؤامرة والسيطرة على كامل أراضي فلسطين وتهويد القدس وإنهاء حق العودة. ولا تملك الولايات المتحدة في المقابل سلاحاً في يدها لمعاقبة إسرائيل في حال النكوص بتعهداتها بعد منحها الضمانات الخطية، لأن اللوم سيقع على الجانب الفلسطيني في حال رفــــضه المضي في هذه المهزلة، والمعلن الوحيد هو التلــــميح بترك إسرائيل تدبر نفسها بيدها وتواجه قرارات الهيئات الدولية، وعدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن في وجه أي قرار يدينها رغم حرص إسرائيل على الحصول على تعهد أميركي باستخدام الفيتو في حال صدور قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.

والرد المطلوب على هذه المؤامرة الجديدة لا بد أن يأتي من الفلسطينيين أولاً، وذلك بأخذ جانب الحذر في أي قرار، واتِّباع أسلوب العدو في استخدام عبارة laquo;نعم ولكنraquo;، أي المطالبة بضمانات أميركية خطية مماثلة لتلك الإسرائيلية، تتعلق بـ: الحدود، وإقامة الدولة على حدود 1967، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية بالنسبة الى حق العودة، والعاصمة القدس الشريف. ويجب إتمام المصالحة الفلسطينية وتوحيد الصفوف وإنهاء الانقسام بين الضفة وغزة.

أما الرد المطلوب عربياً، فهو تشجيع الوحدة الفلسطينية وجمع laquo;فتحraquo; وraquo;حماسraquo; وكافة الفصائل، ودعم الشعب الفلسطيني، ثم توحيد الصف العربي والتوجه إلى الولايات المتحدة والعالم بموقف موحد يتمسك بالمبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد ومبدأ الأرض مقابل السلام من جهة، والتأكيد على أن أي مماطلة أو مناورة أو فشل في إحلال السلام ستقابل بموقف حاسم وحازم بسحب أي اعتراف بإسرائيل ووقف المفاوضات معها ووضع كل الأطراف أمام مسؤولياتها مهما كان الثمن.

فكفى تنازلات، وكفى مناورات ابتزاز، وكفى إدمان تخاذل ولامبالاة، وكفى مماطلة لكسب الوقت ومناورات وعمليات إلهاء، عبر ترديد مزاعم عن صراع داخلي وتغيير حكومي إسرائيلي وشيك يقضي بضم حزب laquo;كاديماraquo; الى حكومة نتانياهو المتآمرة. وحذارِ من التهاون والتأخير، وحذارِ من الاستسلام للأمر الواقع، خاصة ان إدارة أوباما تترنح من الضربات الصهيونية، وهي على عتبة الإعداد لمعركة تجديد ولاية الرئيس.