جميل الذيابي


هناك ملفات تنبشها الرياضة لها ارتباط بالحقوق الإنسانية والسياسية. فهد العنزي لاعب وُصف بالرقم الصعب في منتخب الكويت خلال بطولة laquo;خليجي 20raquo; التي اختتمت في اليمن، يلبس فانيلة الكويت ويدافع عنها ويتحمس لها، ويوزّع همّ laquo;البدونraquo; بين كرات دفاعية وهجومية، ويرقص بعد كل هدف وهو يحترق في داخله على أوضاع laquo;ربعهraquo; في بلاده. يسمى مجازاً لاعباً كويتياً، وهو laquo;يعيّرraquo; بأنه من فئة laquo;البدونraquo;، كونه لا يحمل إلا جواز سفر بلا هوية كويتية أو حقوق إنسانية.

خلال البطولة الخليجية في عدن، سُئل مسؤول كويتي على قناة تلفزيونية عن وضع اللاعب العنزي، وهل سيجنّس فيما لو فازت الكويت بالبطولة؟ فرد الشيخ المسؤول بأن اللاعب لا يحتاج إلى الهوية، والأهم له جواز السفر، مبرراً ذلك بأن الإنسان لا يُسأل في المطارات عندما يسافر إلا عن جواز سفره. بمعنى اكدح والعب يا عنزي، وربما تصاب من laquo;المدورةraquo;، وعندما تنتهي صلاحيتك تقعد في منزلك بلا حقوق، لأنك تحمل جواز سفر، أما الجنسية الكويتية، فإنها تعز عليك و laquo;على طوايفكraquo;.

لا أعرف إلى متى الضحك على الذقون بكلمات بليدة تتذاكى على حقوق الناس؟ ولماذا الناس حتى اليوم في دول العالم الثالث تستجدي الحقوق، طالما أنها وُلدت ونشأت وترعرعت وتعلمت وعملت، ولها سيرة حسنة وسلوك سوي في هذه البلدان؟ ولماذا يستهلك العنزي وأمثاله في التدريبات وتمثيل المنتخبات، وهو لم يُمنح حقوقه في بلاد هو جزء منها ويبخل عليه بما يسمى الجنسية؟

وللعلم فإن الأنظمة في دولة الكويت تمنع تقديم الخدمات الصحية والتعليمية لـ laquo;البدونraquo; مجاناً، بسبب وضعهم غير القانوني، وتحظر منحهم شهادات زواج أو ميلاد، ولا يوظفون إلا في وظائف دنيا.

قبل سنوات زرت الكويت لعمل صحافي، واتصلت بصديق من laquo;البدونraquo;، أقام في لندن لسنوات قليلة، ثم حصل على الجنسية البريطانية، ثم ما لبث أن عاد به الحنين إلى الكويت. التقيته في بهو الفندق الذي أقمت فيه، ثم قررنا الذهاب إلى أحد المقاهي، ونحن في الطريق وجدنا نقطة تفتيش أمنية، فطلب منا رجل الأمن إبراز هويتينا، فما كان من صديقي إلا أن أبرز جوازه البريطاني، فهو لا يحمل حتى وثيقة كويتية، على رغم أنه ولد وعاش وعمل في صحافة الكويت، وينتمي إلى قبيلة عربية عريقة. تجاوزنا النقطة، وبدأنا حواراً وجدلاً تحوّل إلى laquo;تعبويraquo; من طرفي.

سألته: لماذا عدت إلى بلاد ترفض منحك حق البقاء بهويتها، ولا تقبل إليك كما تقبل إليها؟ تنهد وربما شهق وزفر، ثم قال: يا صديقي هذه ديرتي وأهلي وروحي معلقة فيها. عرفت فيها الحياة والبر والبحر والناس، ولن أعاملها كما تعاملني حتى وإن طلّقتني للأبد. ها هو عمري يا صديقي يقترب من الخمسين، ولا أمل لأبنائي بهوية laquo;زرقاءraquo;، بسبب ما يسمى laquo;القرار السياديraquo; و laquo;بيروقراطية التجنيسraquo;.

قلت: إن سألتني، كيف لك أن تعامل من يرفضك؟ فسأقول لك: اهجر من يرفضك بل طلّقه ولا تصدق من يقول: laquo;بلادي وإن جارت عليّ عزيزةraquo;... بلاد لا تحفظ كرامتك لا تستحقك. أرض الله واسعة.

في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، أنشأت الحكومة الكويتية ما يسمى laquo;الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونيةraquo;، ما بعث أملاً جديداً لفئة laquo;البدونraquo;، وشكّل منعطفاً مهماً في قضية قديمة متجددة، لحل ملف مهم لدواعٍ إنسانية وسياسية معاً، على رغم أن القرار النهائي بمنح الجنسية هو في يد الحكومة، باعتباره قراراً سيادياً.

الزميل حمد الجاسر كتب أخيراً في laquo;الحياةraquo;، تقريراً صحافياً عن مشكلة laquo;البدونraquo; في الكويت، وإمكان حلها نهائياً خلال السنوات الخمس المقبلة، إذ أوصى تقرير حكومي بإنشاء laquo;الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونيةraquo;، يتبع مباشرة لمجلس الوزراء، للعمل على سن قوانين تتعلق بمنح الجنسية للمستحقين من laquo;البدونraquo;، خصوصاً أن أكثريتهم، طبقاً لأسمائهم، تنتسب إلى قبيلتي laquo;عنزةraquo; و laquo;شمرraquo; المعروفتين.

أعتقد أن في ذلك تفاؤلاً سريعاً وتبسيطاً لمسألة قديمة، إذ لا يعدو إنشاء هذا الجهاز سوى محاولة حكومية لـ laquo;تخدير القضيةraquo;، فالجهاز لم ينشأ إلا بعد ضغوط من نواب في مجلس الأمة، وبلوغ مطالبات laquo;البدونraquo; مؤسسات وهيئات حقوقية وإنسانية، وتوسعهم في قضيتهم وعرض معاناتهم عالمياً.

الموضوع لم يكن في يوم ما مشكلة تتعلق بقضايا ضبط الهجرة فقط، بل هناك عوائق أولها أن القرار السياسي الكويتي laquo;بطيءraquo; و laquo;متراخٍraquo;، ومنذ أكثر من خمسين عاماً فضّلت الكويت ترحيل هذه المشكلة للزمن بعد الزمن، بدلاً من حسمها بقرار واضح.

ما يتوجب على نواب الكويت المؤيدين لتجنيس laquo;البدونraquo; القيام به هو الاستمرار في تبني مطالبهم بصوت عالٍ، وتأييد تجنيسهم في شكل صريح، نظراً الى ما سيكون له من انعكاسات إيجابية على حقوق الإنسان داخلياً، وسمعة الكويت خارجياً، وتحسين لحياة هذه الفئة صحياً وتعليمياً ومعيشياً، قبل أن يتحوّل الملف برمته إلى أشبه بـ laquo;قنبلة تنتظر الانفجارraquo;، وهو ما ينطبق على دول خليجية أخرى ما زال يعاني فيها laquo;آخرونraquo; من بيروقراطية laquo;التجنيسraquo; كما يعاني laquo;البدونraquo; في الكويت.