داود الشريان


آلاف من العراقيين المسيحيين تركوا بلدهم بعد مجزرة 31 تشرين الأول (أكتوبر) التي نفذها تنظيم laquo;القاعدةraquo; في كنيسة في بغداد. بعضهم فر إلى أنحاء أخرى في العراق، وآخرون إلى سورية والأردن ولبنان، وأميركا، ودول أوروبية. وانخفض عدد المسيحيين في العراق من 800 ألف شخص الى حوالى نصف مليون.

العراق ليس البلد الوحيد الذي يواجه عبثاً في تركيبته السكانية والطائفية. السودان يشهد اليوم نزوحاً كبيراً للمسيحيين منذ إعلان موعد الاستفتاء على انفصال الجنوب، وفي لبنان يقدّر عدد الشباب المسيحيين الذين يهاجرون سنوياً الى دول غربية بخمسة آلاف شاب. كأن بعض الدول العربية تنكّر لوصية الخليفة الراشد أبي بكر الصديق لقائد الحملة الأولى للفتوحات الإسلامية أسامة بن زيد، يوم خاطب الجيش قائلاً: laquo;سوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم لهraquo;. منذ تلك الوصية عاش المسيحيون العرب في كنف الدولة العربية الإسلامية، وساهموا في حضارتها، والدفاع عنها وخدمة لغتها وتراثها. هم حماة اللغة العربية وتراثها. ولم تشهد هذه المنطقة على مر التاريخ تمييزاً ضد المسيحيين، لكنها اليوم تتنكّر لخصوصية التعدد والتنوع التي ميّزت المجتمع العربي على مر العصور.

لا شك في أن المجتمعات العربية التي شكل المسيحيون جزءاً مهماً من نسيجها الاجتماعي، هي الأكثر حرية وتسامحاً وتطوراً وقبولاً للآخر. وكان لبنان النموذج العربي الأبرز في هذا الجانب، وهو اصبح حالة فريدة في تنفيذ وصية أبي بكر الحضارية وتعميقها. لكننا اليوم نشهد تراجعاً مروّعاً، وبات بعضنا ينظر الى أحفاد الغساسنة والمناذرة كغرباء، رغم انهم أهل الأرض، وصانعو مكارم الأخلاق التي حرص الإسلام على التمسك بها وإتمامها.

الأكيد أن تجاهل تهجير المسيحيين العرب واضطهادهم، هو إحدى أخطر نتائج التطرف والإرهاب، فضلاً عن أن التماهي مع هذه النزعة العنصرية، والنظر إليها من زاوية أمنية، رؤية قاصرة. فالقضية هنا ليست مشكلة أمنية، بل عبث في البناء الحضاري والاجتماعي لدول المنطقة العربية، إذ إن تهجير المسيحيين العرب سيعاود تشكيل بنية بعض المجتمعات العربية، ويفتح المجال لتكريس تركيبة اجتماعية منغلقة وموحشة. لذلك على جامعة الدول العربية أن تتبنى هذا الملف، وعلى نحو منفصل عن ظاهرة التطرف والإرهاب.

نواجه أزمة حضارية خطيرة، وعلينا الالتفات إلى هذه الظاهرة المفزعة قبل ضياع الفرصة.