محمد الصياد
مئات من المسيحيين العراقيين خرجوا في نينوى وبغداد في يوم الجمعة الموافق للثامن والعشرين من فبراير الماضي، للتظاهر احتجاجاً واستنكاراً لعمليات القتل التي تستهدفهم، والتي أودت خلال النصف الثاني من فبراير الماضي فقط بحياة 10 منهم، وتهجير 250 عائلة مسيحية، تاركة منازلها في مدينة الموصل باتجاه سهل نينوى، فيما أُرغم الطلبة الجامعيون المسيحيون على التوقف عن متابعة دراستهم بسبب التهديدات المتواصلة، وقتلهم على الهوية واختطافهم من بيوتهم.
في مصر أيضاً خرج المسيحيون قبل حوالي شهرين في تظاهرات احتجاجاً على أعمال القتل وتدمير الممتلكات التي يتعرض لها أقباط مصر على يد الإسلاميين المتشددين. وكان المسيحيون في الجزائر قد تعرضوا إبان الحرب التي اندلعت بين الدولة الجزائرية والجماعات الإسلامية الإرهابية خلال العقدين الأخيرين، إلى أعمال قتل وإرهاب راح ضحيتها العشرات، بخلاف المئات الذين هُجِّروا من ديارهم.
فماذا عسى المرء أن يقول وهو يصعق بهذه الأنباء المفزعة، بدلالاتها البليغة المؤشرة لمستوى الانحدار الذي آلت إليه أوضاعنا العربية العامة، وبضمنها أنساقنا القيمية والثقافية بالمجمل، وقد أضحت ضيقة الصدر، طاردة للآخر لعدم احتمالها تقبل العيش المشترك معه، بل واللجوء إلى أبشع الوسائل وأكثرها خسة لمطاردته ومضايقته في عيشه والنيل منه ومن أقاربه وممتلكاته.
الأمر الأكثر سوءاً أن هذا ''الآخر'' الذي نعنيه هنا ليس سوى نحن أنفسنا، من حيث أن هؤلاء المسيحيين المستهدفين هم أبناء جلدتنا، الذين لا يختلفون عنا سوى في العقيدة، التي لم تكن يوماً خيارنا أوإياهم، ولا حاجزاً بين كافة مكوناتنا الدينية والمذهبية، فالنزق والعدائية دفعت بأوساط نافذة متمادية التجاسر، بتسهيل وتمرير أحياناً من المستوى السياسي الأعلى، لاستهداف حتى هؤلاء الإخوة الذين يسكنون معنا البيت عينه. في كل يوم جمعة، تصدح أصوات كثير من خطباء صلاة الجمعة في العواصم والحواضر والنواجع العربية، مطالبة بالتهجم على النصارى والدعاء عليهم بالهلاك والدمار، وهي دعوات صريحة لإثارة الكراهية والبغضاء، وتحريض رواد هذه الجوامع والمساجد على اللجوء للعنف لإحداث ''الهلاك والدمار'' المقصود من لدن خطباء ميكروفونات الفتنة.
وهنالك مشايخ لا يتورعون عن إصدار فتاوى تحرِّم التعامل مع النصارى، وتهنئتهم بأعيادهم وما إلى آخره من محظورات، يحرص هؤلاء ''الدعاة'' على إشاعتها بين الفينة والأخرى، كي يضمنوا استمرار وترسخ جذوة الحقد والكراهية في الصدور، وتحفيز أصحابها للانتقال من القول إلى الفعل، من خلال التوظيف الماكر للدين، بالمداومة على محاولة تفعيل ما يسمونه فريضة الجهاد، سواء ضد ما يسمونه ''بالحكومات الباغية''، أو المجتمعات الفاسدة، أو ''الطوائف الكافرة''.
هذا بالذات ما يفسر انتشار واندلاع موجات التعصب والتطرف الديني في غير بلد إسلامي، عُرفت حتى وقت قريب بهدوئها وتسامحها الديني وسلامها الأهلي.
فلقد كانت مفاجِئة بحق موجة العنف والتعصب الديني، التي اجتاحت ماليزيا في الآونة الأخيرة بين المسلمين والمسيحيين، حيث جاء ذلك على إثر قرار المحكمة الماليزية العليا بالسماح للمواطنين غير المسلمين باستعمال كلمة ''الله'' إشارة إلى الرب، متمثلاً في هجمات شنها في السابع من يناير الماضي شباب مسلحون متعصبون ومشحونون من قبل مشايخ التحريض على إقصاء واستئصال الآخر، حاولوا خلالها إحراق ثلاث كنائس كاثوليكية في العاصمة كوالالمبور بواسطة قنابل المولوتوف. وقد أحدث هذا التطور في الاحتقان الديني الناتج -كما قلنا- عن الشحن والتعبئة الأسبوعية المنظمة، صدمة سياسية واجتماعية في بلد ظل حتى وقت قريب يعتد بتسامحه الديني وتعايشه العرقي السلمي، (يبلغ عدد سكان ماليزيا 28 مليون نسمة، 60٪ منهم مسلمون، فيما تمثل النسبة الباقية أقليات صينية وهندية بوذية أو هندوسية ومسيحية). وفي نيجيريا البلد الأفريقي مترامي الأطراف بمساحته البالغة 924 ألف كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانه المتعاظم (حوالي 150 مليون نسمة) وتنوعه العرقي السكاني (حوالي 250 مجموعة عرقية أبرزها وأكثرها تأثيراً قبائل الهوسا والفولاني بنسبة 29٪، واليوروبا بنسبة 21٪، وايبو 18٪، وإجوا 10٪) وتوزع انتماءات سكانه الدينية ما بين المسلمين بنسـبة 50٪، والمسيحيين بنسبة 40٪، وأصحاب الديانات المحلية بنسبة 10٪، في هذا البلد الأفريقي غير المستقر أصلاً، بفعل صراعات أصحاب المصالح الذين أغرقوا البلاد في الفساد حتى أذنيها، وقعت في الثاني والعشرين من يناير الماضي مصادمات عنيفة ودامية بين المسلمين والمسيحيين في مدينة جوس الواقعة في وسط نيجيريا، تخللها إطلاق نار متبادل، وحرائق لمحلات وممتلكات، حتى قيل إن القسم الشمالي لمدينة جوس قد أُحرق بالكامل، والنتيجة أكثر من مائتي قتيل ومئات الجرحى وآلاف النازحين الذين أُحرقت منازلهم، وقبل أيام عادت الاشتباكات وأعمال القتل والتدمير من جديد بين المسلمين والمسيحيين، مخلفة مزيداً من الضحايا من الطرفين. هذه الحوادث، ومثلها وأسوأ منها في باكستان والعراق، حيث وصل ''فيض الضغائن والأحقاد'' إلى مستوى التكفير واستحلال القتل، وإلى مجازر يرتكبها مسلمون ضد مسلمين آخرين باسم فريضة الجهاد إياها، التي يُنَظِّر لها خطباء الجمعة على الدوام. والواقع ليس خطباء المساجد والمشايخ وحدهم من امتهن المداومة على نثر هذه السموم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهنالك وسائط إعلامية تم الزج بها في أتون هذه الفتنة البغيضة.
الأدهى والأمر أن كل هذا التنفير والاستعداء والتحريض، لم يستدع ردود فعل مناسبة من جانب بقية أعضاء الجسم العربي والإسلامي، التي لم يطلها العطب، إذ يكاد الصمت يطبق على أفواه الجميع، فلا يكاد المرء يسمع همساً احتجاجياً على هذا الولوغ الخطير جداً في التيه، حتى من جانب المثقفين والنخب النافذة!
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التعليقات