وحيد عبدالمجيد
يثير الفيلم السينمائي الأميركي laquo;المنطقة الخضراءraquo;، الذي يُعرض في الولايات المتحدة وبعض البلدان العربية الآن، السؤال مجدداً عن حقيقة قضية أسلحة التدمير الشامل في الحرب على العراق 2003. فهذه القضية هي محور الفيلم المبهر، الذي أخرجه المبدع بول غرفيجراس، مثلما كانت هي الحلقة المركزية في قصة الحرب التي أسقطت نظام صدام حسين وقلبت الأوضاع في العراق، ولكنها لم تؤد إلى العثور على أسلحة التدمير.
وعلى الرغم من أن جودة هذا الفيلم من الناحية الفنية تكفي لوضعه في صدارة أفلام الحرب في تاريخ السينما الأميركية، فهو يستمد أهمية خاصة من إثارته قضية لم تكتمل قصتها بعد. وها هي الذكرى السابعة لإسقاط laquo;الصنمraquo; مرت قبل أربعة أيام، فيما السؤال عن مغزى اتهام النظام العراقي السابق بحيازة أسلحة تدمير شامل يمكن أن تصل إلى laquo;القاعدةraquo; مازال مطروحا.
والجواب عن مثل هذا النوع من الأسئلة الكبرى، ليس من وظيفة السينما بطبيعة الحال. غير أنه فضلا عن إثارته القضية بأكبر مقدار من الجدية والتشويق في آن معاً، ينبه فيلم laquo;المنطقة الخضراءraquo; بوضوح إلى أن غياب تفسير مقنع لعدم العثور على أسلحة التدمير في العراق يضعف صدقية الولايات المتحدة على المستوى الدولي. وهذه هي الرسالة المباشرة التي وجهها الضابط الأميركي روي ميلر (قام بدوره الممثل الكبير مات ديمون) الذي ذهب إلى العراق للبحث عن الأسلحة، عندما واجه مندوب الاستخبارات المركزية بأن هذه الأسلحة ليست موجودة أصلاً.
ففي نهاية الفيلم يقدم ميلر تقريره الذي يؤكد خلو العراق من أسلحة التدمير الشامل، فيرد ضابط الاستخبارات، وهو في حالة عدم اكتراث بأن هذا الأمر لم يعد مهماً. فما كان من ميلر إلا أن واجهه -والمؤسسة الأميركية كلها- بالسؤال الرسالة قائلاً: وماذا سيحدث في المقبل من الأيام حين نحتاج من العالم أن يصدقنا؟
ولكن الأهم من ذلك هو أن قصة الحرب على العراق لن تكتمل من دون معرفة الحقيقة في شأن أسلحة التدمير التي اتُهم نظام صدام حسين بامتلاكها، وكانت هي السبب الأول وراء الغزو الذي أسقطه. كما تفيد هذه الحقيقة -حين تنجلي- في إلقاء مزيد من الضوء على جانب من جوانب العقل العربي في تعامله مع العالم. فالقضية، إذا، مازالت في حاجة إلى بحث ونقاش، بمنأى عن معالجة الفيلم لها، انطلاقاً من فكرة بسيطة مضمرة تفيد أن laquo;المحافظين الجددraquo; قادوا حملة استعمارية مدفوعة بمزيج من التآمر والنزق والعمى الأيديولوجي والمصالح الخاصة.
لقد كان هذا كله موجوداً، بدرجة أو بأخرى، في خلفية قرار الحرب على العراق. ولكنه لا يعني أن قضية أسلحة التدمير كانت مختلقة في فصولها كافة، أو أنها كانت مجرد حيلة للخداع. فالأمر أكثر تعقيداً بكثير، لأن اليقين المتوافر الآن بأن العراق كان خاليا من هذه الأسلحة لم يكن كذلك عندما أتُخذ قرار غزوه.
لقد أدرك المفتشون الأميركيون، الذين يرمز الضابط ميلر إليهم في الفيلم، أن نظام صدام كان قد تخلص مما بقي لديه من مكونات أسلحة كيماوية وبيولوجية. ولكنهم عرفوا ذلك بعد الغزو، وليس قبله.
لذلك فالسؤال المحوري الذي مازال مثارا بعد سبع سنوات هو: لماذا لم يقدم النظام العراقي السابق ما يثبت ذلك إلى فريق التفتيش الذي أوفدته الأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002، فهل فشل في إثبات أنه تخلص مما بقي لديه من أسلحة، أم تقاعس عن توفير الأدلة التي تؤكد ذلك، أم تعمد حجبها عن فريق هانز بليكس في وقت كانت نذر الحرب تتجمع في الأفق؟
وإذا صح أن إثبات التخلص من الأسلحة ليس صعبا بأي حال، وهو كذلك، ومادام التقاعس غير منطقي في مثل تلك اللحظة، فهذا يعني أن تعمد نظام صدام حجب الأدلة قد يكون هو الافتراض الأقرب إلى الحقيقة.
فإذا صح هذا الافتراض، فهو دليل جديد على نوع العقل الذي حرك أحداثا كبرى على الصعيد العربي خلال النصف الثاني في القرن الماضي، ونمط الحكم المطلق الذي يرتبط بحاكم فرد يطبع كل شيء بطابعه.
وإذا كان هذا الحاكم هو الديكتاتور صدام حسين تحديدا، يصبح ممكنا تصور أنه تعمد حجب الأدلة التي تثبت تخلصه من بقايا الأسلحة التي قالت لجنة laquo;أوراسكومraquo; عندما غادرت العراق 1998 أنها لا تعرف مصيرها. وفي تفسير ذلك يظهر أثر شخصية صدام الذي كانت حياته كلها قبل السلطة، وفي ظلها، مزيجا من المؤامرات والمغامرات. وإذا أمكن تقمص مثل هذه الشخصية في الظروف التي أحاطت العراق عشية الغزو، يمكن تصور أن صدام فكر كالتالي: إن كل ما يحدث ليس سوى مؤامرة لإطاحته، وأن قضية الأسلحة ليست أكثر من ذريعة سخيفة يمكن أن يبطلها، ولكن إبطالها لن يوقف المؤامرة ويمنع الحرب، بل ربما يعجل بها إذا تأكدوا أنه لا يملك أسلحة تدمير يمكن أن يستخدمها فتجعل ثمن هذه الحرب باهظا بالنسبة إليهم.
وإذا كانت هذه هي بالفعل الطريقة التي فكر بها، فربما خلص إلى أن الغموض في شأن مصير هذه الأسلحة هو خيار أقل تكلفة من إثبات عدم وجودها. فتأكيد خلو العراق منها قد يجعل الحرب أكثر سهولة لمن يتآمرون عليه، في ما استمرار الغموض يدفعهم إلى التردد خوفا من الخسائر التي تترتب على استخدامه الأسلحة.
أراد صدام، وفق هذا الافتراض، تجنب حرب كان قد أدرك أخيرا أنها لن تبقيه حيا، أو حاكما إذا وقعت. ولكنه فعل، إذا ثبت هذا الافتراض، عكس ما كان ينبغي أن يفعله سعيا إلى تجنب الحرب. لم يعرف، في تلك الأزمة كما في غيرها، أن الخط المستقيم هو الأقصر لمن يريد أن يصل إلى هدف يريده. فقد نشأ في بيئة سياسية سادتها المغامرات. وانسجمت شخصيته مع هذه البيئة فتخيل أنه هو سيدها.
لم يفكر في المكاسب التي كان ممكنا أن يحققها لو أثبت بدليل قاطع أنه تخلص من بقايا الأسلحة من تلقاء نفسه، ووقف بليكس -بالتالي- على مرأى ومسمع من العالم معلنا أنه تأكد من ذلك. لم يفكر في المأزق الذي كان ممكنا أن يضع واشنطن فيه إذا أبطل ذريعة أسلحة التدمير. فقد فعل ما يفعله المغامر الذي يقامر بكل شيء في لعبة واحدة. لعب لعبة الغموض معتقداً أنها طوق النجاة وراهن عليها، فخسر كل شيء.
لكن هل هذا هو ما حدث يقيناً؟ ليس ثمة يقين بعد، وإنما افتراض تتوفر عليه دلائل، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الأدلة. ومع ذلك فهو يبدو الافتراض الأقوى في تفسير لماذا لم يثبت نظام صدام حسين خلو العراق من بقايا الأسلحة التي قالت لجنة laquo;أوراسكومraquo; 1998، ثم فريق بليكس 2003 إنهما لم يعثرا عليها، ولا على ما يؤكد التخلص منها..
التعليقات