مراد زروق


تحدث الناس قديما وحديثا عن العرب البائدة والعرب العاربة ووفّوا إلى حد الإطناب، لكنْ هناك صنف من العرب لم يُوف حقه؛ لأنه طارئ ولم يخرج إلا في دبر هذا الزمان الذي كثرت عجائبه وغرائبه. إنهم العرب المُنسَلِخة الذين ما وقفوا أمام الآخر إلا وحاولوا جاهدين أن ينسلخوا من جلدهم وأن يعلنوا براءتهم من أصولهم لعلهم يتسلقون سلم الحضارات ومعارج الرقي؛ ليناموا مرتاحين في القمة مع غيرهم من الشعوب الراقية، ولكن هيهات..
في الأسبوع الماضي تعرفت على سيدة مصرية تنتمي إلى هذا التيار الانسلاخي الذي لم يكن ينقص إلا حضوره في زمن الانحطاط هذا؛ ليكتمل مشهد البؤس الفكري الذي تتمرغ فيه بلاد العرب.
كانت الأستاذة المحملة بهموم النخبة ضمن من دعي لتظاهرة ثقافية في إحدى مدن جنوب إسبانيا؛ لتتحدث عما جادت به قريحتها الأدبية، إلا أنها لزمت ما لا يلزم واستهلت مداخلتها بمقارنة غريبة بين مصر وإسبانيا. قالت أديبتنا: quot;أنا جئت من مصر، وهو بلد عاش نفس التجربة التي عاشتها إسبانيا في السابق. البلدان معا عانَيَا الغزو العربي الذي يسميه البعض فتحاً. أنتم تخلصتم من هذا الغزو ونحن لم نتخلص منه، وبقاء العرب في مصر هو ما يفسر الانحطاط الذي يعيشه هذا البلد. أنا وثلّة من المثقفين ندافع عن حضارة مصر الفرعونية...quot; ارتسمت الدهشة على وجوه الحاضرين، لكن الجميل في الأمر أن الإسبان لم يتعاطفوا مع هذا الخطاب العنصري، بل على العكس من ذلك غضب بعض المنظمين مما قالته أديبتنا؛ لأنهم لو كانوا يريدون هذا النوع من المداخلات في تظاهرتهم لوجهوا الدعوة لبعض مثقفي اليمين المتطرف ndash;وعددهم قليل لحسن الحظndash; بدل أن يتجشموا عناء استقدام الأستاذة من أرض الكنانة.
بعد المحاضرة نبهتُ صاحبتنا على انفراد أنها جانبت الصواب في أغلب ما قالته حول تاريخ الأندلس، بل وتاريخ مصر، إلا أنها أصرت أن التخلف إشكالية بنيوية عند العرب؛ لأن المشكلة في جيناتهم!!
لأول مرة منذ زمن بعيد وجدتني أدافع عن العرب؛ ليس لأنني من أصول عربية، فهذا الأمر لا يستوقفني كثيرا، وأنا لا أؤمن بالقومية العربية ولا أرى مخرجا للقوم من مأزقهم على المدى القصير. دافعت عن العرب؛ لأني أرى أنهم قوم كسائر الأقوام خرجوا من التوحش إلى الحضارة تم انحدروا إلى الحضيض، ويحق لهم أن يحلموا بمستقبل أفضل حتى ولو كان هذا المستقبل بعيدا.
أديبتنا ليست حالة خاصة وفريدة، فأصحاب هذا الخطاب عنصريون وإن أنكروا ذلك؛ لأنهم اعتمدوا على اعتبارات عرقية في تحديد آرائهم بعد أن نسبوا أنفسهم إلى شعوب وقبائل بائدة حتى لا يطالهم ما يقولون عن العرب. وما يقولون لا يدخل حتى في باب جلد الذات؛ لأنهم تجردوا من هذه الذات قبل رجمها. إلا أن الإشكال الذي يعوق هذه الحركات البهلوانية هو أنه في الغرب، حيث يحلو للانسلاخيين التباكي على كل شيء لا مجال للحديث عن الأعراق والقوميات من منطلق إثني. بمعنى أن هذا الخطاب الذي اندثر مع اختفاء هتلر يثير حساسية الناس، فالغربيون المتنوّرون لا يستسيغون مثلاً أن توجد منظمة إقليمية قائمة على أسس عرقية مثل جامعة الدول العربية ولا يتفاعلون بالمرة مع خطاب العروبيين، وبطبيعة الحال لا يمكنهم أن يسوغوا التحامل على العرب من منطلق عرقي؛ لأن الخطاب الاستعماري التقليدي لم يكن يختلف في بعض ركائزه عما تفضلت به أديبتنا.
لم أعد أذكر عدد العرب الانسلاخيين الذين رأيتهم يتمسحون في الجامعات الأوروبية بالأرجل والأحذية. لم أعد أذكر عدد اللبنانيين الذين قالوا إنهم فينيقيون؛ حتى لا يقال عنهم إنهم عرب ومع ذلك لم تشفع لهم أسماؤهم المسيحية الفرنسية. لم أعد أذكر عدد المغاربة والجزائريين الذين اختبأ بعضهم وراء ثقافته الفرنسية والبعض الآخر تستر بأستار الأمازيغية، لا لشيء إلا لخوفهم من أن يقال لهم أنتم عرب، وكلهم يجهلون أنهم عنصريون حتى النخاع؛ لأن هذا التنصل المرضي وهذا الإصرار على التبرؤ من قوميةٍ ما لا يختلف عن التعصب لقوم بذاتهم وتفضيلهم على باقي الأقوام لأسباب عرقية. لا أتصور أن يزايد أوروبي على أوروبي بأصوله السلافية أو اللاتينية أو الجرمانية؛ لأن ما يجمع الناس هنا ويفرقهم هو الأفكار والمبادئ، أما ما عدا ذلك من الاعتبارات فهو متروك للعنصريين والمتخلفين.
في بعض الدول الأوروبية أصبح هناك جيل ثالث للمهاجرين من أصول عربية. أصبحوا أوروبيين جنسية وثقافة، ولم يعودوا متكلمين بالعربية، وعلاقتهم بالإسلام تكاد تكون فلكلورية، ومع ذلك عندما يريد بعض اليمينيين المتطرفين أن يذكرهم بأصولهم، لا يجد صعوبة في ذلك، فما بالك بمن جاء زائرا.
لو تجرد المتجردون من جلدهم ودفنوه تحت التراب عُرفوا؛ لذلك لا داعي للبحث في كهوف ما قبل التاريخ عن أصل جديد يستحسنه الخواجات.
في يوم من الأيام كنت أجالس أحد الأصدقاء وكان رجلا حكيما من السنغال، قص علي كيف أساء معاملته فرنسيان من أصل مغاربي في باريس؛ لأنه كان أسود اللون. فكّر ملياً، ثم قال: quot;أتدري لماذا عاملني الشابان على ذلك النحو؟ لأنهما يعتقدان أنهما أبيضان، لكنهما على خطأquot; حينها فهمت الفرق بين البياض والسواد. ومع كل ما وقع في تلك الأمسية الثقافية، أشعر بالارتياح للتطور الذي عرفته العقليات في أوروبا من حيث المفاضلة بين الناس التي لم تعد تقوم على أسس العرق أو اللون أو الدين، وإلا لما تبرّم الحضور مما قالته صاحبتنا، ولا أقامت بلدية تلك المدينة الإسبانية التي حاضرت فيها أديبتنا تمثالاً لابن حزم وآخر لابن رشد وابن ميمون ونصباً يذكر الناس بقصة ولاّدة وابن زيدون.