خضير بوقايلة

هل كانت ثورة التحرير الجزائرية فعلا ملهمة ثورات التحرير في العالم وقاهرة أعتى قوة استعمارية في العصر الحديث، أم أنها لم تكن أكثر من ثورة عادية لا تختلف كثيرا عن الثورات التي نشبت في أنحاء كثيرة من العالم، أم أنها كانت أكبر كذبة في تاريخ الجزائر وأن هذه الأخيرة لم تكن لتحصل على استقلالها لولا تكرم الجنرال شارل ديغول بذلك مثلما يحاول الكثيرون الترويج له منذ سنوات؟
56 سنة مرت على اندلاع ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي و48 سنة على استقلال الجزائر ولا يزال الجزائريون يستيقظون كل يوم ليسمعوا ويقرأوا أخبارا جديدة ومثيرة عن ثورتهم وعن زعمائها، أخبار تزيد الوضع غموضا وتجعل كل شيء في هذا التاريخ الحديث قابلا للتكذيب والتشكيك، ويوما بعد يوم وسنة بعد سنة وعند كل تصريح أو خبر مثير جديد حول هذه الحقبة التاريخية الهامة من تاريخ الجزائر الحديث تتعرض أسطورة الثورة الجزائرية العظيمة إلى التداعي والذوبان تماما مثل جبال الجليد القطبية التي أصابها فيروس الاحتباس الحراري.
عشرات الآلاف من الجزائريين قضوا نحبهم طيلة سنوات الاستعمار الفرنسي المائة والاثنتين والثلاثين، معظمهم مات شهيدا ومؤمنا بقضية وطنه وضرورة تخليصه من قبضة المستعمر وقد ساهموا، كل بما استطاع، في توجيه الأحداث ودفع فرنسا للتفكير جديا في ترك البلد لأهله. كيف تطورت الأحداث وبدأت صورة هؤلاء الشهداء البسطاء عرضة للتشويه بسبب تعرض صورة الثورة التي انتسبوا إليها للتحريف والتضليل؟ هل يعود الذنب إلى أن الثورة الجزائرية حُمّلت أكثر من طاقتها وزُرعت حولها هالة من القدسية لا تحتملها؟ وهل كان كل هذا الجدل والتشويه سيطال تاريخ (قِبلة الثوار) لو أن الجزائريين اكتفوا بالتسويق لثورة (عادية) لا تتعملق كثيرا على ثورات جيرانها في تونس والمغرب وليبيا؟
والأدهى والأمر في كل هذا هو أن التشويه والتشكيك في تاريخ ثورة التحرير الجزائرية لا يأتيان من جهات تناصب لها العداء وأولها فرنسا ولا حتى من جهات تجهل ما جرى في تلك الحقبة فتنطبق عليها مقولة (من جهل شيئا عاداه)، بل إن هذا التشكيك والتشويه يأتيان من أناس عاشوا الثورة من داخلها بل وكان كثير منهم من صناعها وقادتها. وعندما يأتي شخص ليكشف بعد سنوات من استقلال الجزائر عن حقائق تكذب ما كان يتلى على الجزائريين، أي مصداقية تبقى لهذه الثورة الأسطورة؟ قد يقول كثيرون إن الظروف حينها كانت تحتم على قادة الثورة وعلى الذين أخذوا زمام الحكم في البلد غداة الاستقلال (وهم من عائلة واحدة) أن يغطوا بعض الحقائق التاريخية ويحرفوا بعضها حفاظا على الوحدة الوطنية، لكن ألم يفكر هؤلاء في أن حبل الكذب مهما استمر سيبقى قصيرا ولا بد أن ينقطع يوما وأن الحقيقة مهما كانت مرة لا بد أن تقال للشعب في حينها والضرر الذي يلحق بالمسيرة في هذه الحالة لن يكون أشد وأعظم من الصدمة التي سيصاب بها الناس عندما يعلمون أنهم كانوا يتغذون على الكذب والتلفيق والتزييف في أعز شيء يملكونه، تاريخ بلادهم؟
آخر صفعة تلقاها الجزائريون، ولن تكون الأخيرة، جاءت من الزعيم السياسي سعيد سعدي رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية من خلال كتاب جديد يستعد لإصداره بعد أيام تحت بعنوان: (عميروش، حياة، ميتتان ووصية) كشف فيه أن العقيدين عميروش وسي الحواس، وهما وجهان أسطوريان في تاريخ ثورة التحرير الجزائرية، قتلا من قبل قوات الاستعمار الفرنسي بوشاية من مدير ومؤسس جهاز المخابرات الجزائرية العقيد عبد الحفيظ بوصوف ورئيس أركان الجيش الجزائري ورئيس الجزائر المستقلة العقيد هواري بومدين. هذان الأخيران قررا، وفقا لرواية الكاتب الذي سيقول إنه استند إلى وثائق رسمية من الأرشيف الفرنسي ومن شهادات رجال عايشوا تلك المرحلة، تصفية العقيد عميروش لأنه كان يخطط لحل جهاز المخابرات وقيادة الأركان التي كانت متمركزة في الحدود التونسية، وقد حمل العقيد عميروش مخططه وتوجه به برفقة زميله العقيد سي الحواس إلى تونس لعرضه على قيادة الثورة هناك، لكن بوصوف وبومدين قررا أن يتغديا بغريمهما قبل أن يتعشى بهما فسارعا إلى إيصال خبر تنقله برا إلى الحدود الشرقية، فترصدت له قوات الاستعمار وقتلته هو ورفيقه ومجموعة من المجاهدين في جبل ثامر يوم 29 آذار/مارس 1959.
أسطورة العقيد عميروش لم تتوقف في جبل ثامر بل ظلت مستمرة طيلة ربع قرن لتعود إلى الظهور الآن بعد واحد وخمسين عاما من اغتياله. فرنسا تحفظت وقتها على جثتي الشهيدين القياديين من دون جثث باقي زملائهم في تلك الواقعة، ولم يفرج عنهما إلا بعد الاستقلال حيث أخبرت السلطات الاستعمارية حكام الجزائر الجدد أن جثتي عميروش وسي الحواس كانتا مخبأتين في ثكنة عسكرية غير بعيد عن مكان تصفيتهما. كان من الممكن أن تتوقف الحكاية عند هذا الحد وتعلن قيادة البلد عن اكتشاف مكان وجود الجثتين وتعيد دفنهما في مكان لائق وتترحم عليهما، إلا أن الذي حدث هو أن الجثتين بقيتا (مفقودتين) إلى سنة 1983 ثم نقلتا بعد ذلك إلى مربع الشهداء بمقبرة العالية في العاصمة الجزائرية لإعادة دفنهما هناك واتضح بعد ذلك أن الجثتين كانتا مخبأتين في صندوق في دهاليز مقر قيادة الدرك الوطني في الباب الجديد بأعالي العاصمة. لماذا قرر الرئيس هواري بومدين إخفاء أمر الجثتين عن عائلتي الشهيدين وأيضا عن الشعب الجزائري طيلة حياته؟ لعل أهم شخص يمكن أن يجيب على هذا السؤال هو العقيد أحمد بن الشريف أحد عقداء ثورة التحرير وأيضا قائد الدرك الوطني الجزائري طيلة السنوات التي كان فيها جثمانا العقيدين عميروش وسي الحواس مخبأين في قبو مقر قيادة الدرك. لكن الرجل كان يرفض الكلام حول الموضوع إلا بمقدار وعندما اضطر إلى الحديث بمناسبة الحديث عن كتاب سعيد سعدي قال كلاما أقرب منه إلى محاولة ولد في بدايات عمره التخلص من سؤال محرج، كلام قد يثير البكاء كما قد يثير الضحك والشفقة على حال قائله. قال العقيد بن شريف في تصريح لمراسل صحيفة الشروق المحلية إن (حقيقة ما وقع تعود إلى تدخل قاصدي مرباح الذي أجرى مشاورات واتصالات بالدرك الفرنسي، وبعد تنقل عناصر من الدرك الفرنسي من الخارج إلى بوسعادة، تم نقل جثة الشهيد عميروش من بوسعادة من طرف عناصر الأمن العسكري لمكان حدده' قاصدي مرباح، ثم حوّل إلى باب' الجديد، وأكد أحمد بن الشريف أنه لم يكن يعرف أن الصندوق الذي نقل إلى مقر قيادة أركان الدرك الوطني بباب جديد يحتوي على جثة الشهيد عميروش، حيث كان الاعتقاد السائد آنذاك أنه يتضمن أرشيفا للثورة، وأضاف أنه بمجرد أن اكتشف أن الصندوق يحتوي على جثة الشهيد اتصل مباشرة ببختي نميش الذي أخبر الشاذلي بن جديد، وقال إن الشاذلي بن جديد كان على علم بتفاصيل هذه القضية). هذا هو النص كما أوردته الصحيفة، والعقيد قاصدي مرباح لمن لا يعرفه هو رئيس جهاز المخابرات في جزائر الاستقلال وقد اغتيل في بداية التسعينات على يد مجموعة مسلحة قرب بيته بضواحي العاصمة. الشاهد الذي أمر أو عمل على إخفاء جثتي العقيدين لم يعد الآن في عداد الأحياء إذن والشاهد الثاني الذي (استضاف) الجثتين طيلة عشرين سنة يقول إنه لم يكن يعلم أن في الصندوق جثتين بل كان يعتقد أن فيها أرشيفا خاصا بالثورة، وهو لم يكن يكذب لأن الجثتين هما أيضا أرشيف هام من أرشيف الثورة ولا نسأله كيف يوافق على وضع أرشيف مهم من تاريخ الجزائر في قبو، والجميع في الجزائر يعرفون المخاطر التي تخبئها الأقبية للأوراق كالرطوبة الزائدة والهجومات المحتملة للجرذان والفئران من مختلف الألوان والأحجام. لكن الله سلم وقدّر أن يكتشف قائد الدرك بعد عشرين عاما أن الصندوق الذي أودعه إياه قائد جهاز المخابرات قاصدي مرباح كان يحوي عظام رجلين كان أولاد الاستقلال يقرآن عنهما في كتب التاريخ أنهما بطلان عظيمان من أبطال ثورة التحرير المباركة والمظفرة وكان الجزائريون يسيرون في شوارع تحمل اسميهما. قد يكون هناك شهود آخرون يمكن أن يفيدونا بتفسير لأسباب بقاء جثتي عميروش وسي الحواس في قبو ثكنة عسكرية طيلة فترة حكم الرئيس هواري بومدين لكن أهم شاهد قد يكون الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد الذي أمر بتحرير الجثتين من قبو مقر قيادة الدرك ونقلهما إلى مقبرة الشهداء، ولعل نائب رئيس جهاز المخابرات آنذاك العقيد يزيد زرهوني الذي هو الآن وزير للداخلية يمكنه أن يقول شيئا مفيدا للذاكرة الجماعية عن هذه العملية، هذا إذا اعترف أنه كان على علم بالأمر طبعا.
للأسف، الجزائر ليست بعد بلدا ديمقراطيا ومتحضرا تحكمه مؤسسات وسلطات تستمد شرعيتها من إرادة الشعب، والأكيد أن ذلك لن يكون لا غدا ولا بعد غد، لهذا لا مجال لتوقع صدور أمر من رئيس الدولة بالتحقيق في هذه القضية وعرض كل الحقائق على الشعب، كما أنه لا مجال لاحتمال تحرك جهة قضائية ما لاستدعاء جميع المعنيين بهذا الملف وغيره من الملفات الخطيرة وإجبارهم على كشف حقائق حول الظروف والأسباب التي تجعل جزائريين يقتلون ويخطفون جزائريين آخرين أو يخفون جثثهم ويصرون على تقديم أكاذيب للشعب على أنها حقائق ويجبرون الناس على تصديقها.
العقيدان عميروش وسي الحواس ليسا إلا مثالا من كثير من الوقائع التي تحوم حولها الشبهات في تاريخ الجزائر الحديث، هناك أيضا ما يتردد من حكايات اغتيال سياسية كثيرة، لعل أبرزها (حتى نبقى في تاريخ الثورة) قصة اغتيال الزعيم السياسي عبان رمضان من قبل زملائه في قيادة الثورة بتهمة الخيانة، لكن كتب التاريخ تقول إنه استشهد في ميدان المعركة وكان الناس يعتقدون أن الاستشهاد معناه أن يُقتل الشخص من قبل العدو أي المستعمر الفرنسي في الحالة الجزائرية، لكن شهادة العقيد علي كافي الذي تولى قبل صدور شهادته في كتاب مذكرات منصب رئيس الدولة الجزائرية كشفت أو بالأحرى أكدت أن عبان رمضان استشهد تحت رصاص إخوته في الدين والوطن والجهاد!