خضير بوقايلة

عندما اشترط وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير رحيل جيل ثورة التحرير الجزائرية من الحكم لتستوي العلاقات الفرنسية الجزائرية سارع السياسيون المتدثرون بدفء السلطة وعدد من الإعلاميين إلى التنديد واستنكار كلام الوزير الفرنسي باعتباره تدخلا في الشؤون الداخلية لبلد أجنبي وهذا ليس من أعراف التعامل بين الدول. وجيل الثورة الذي يتحدث عنه كوشنير هو جيل الرجال الذين شهدوا على أنفسهم أنهم شاركوا في ثورة التحرير المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي وعندما استقلت الجزائر استولوا على السلطة باسم الشرعية الثورية أو الشرعية التاريخية وهم أنفسهم لا يزالون بعد ثماني وأربعين سنة يحكمون باسم الديمقراطية والانتخابات الحرة والنزيهة والنظيفة والشفافة وغيرها من النعوت الرقراقة. كانت أعمارهم بين العشرين والثلاثين وهم الآن في أرذل العمر لكنهم يصرون على أنهم أقدر وأجدر وأكفأ أبناء الجزائر في الحكم وتقرير مصير البلد وأجياله الصاعدة.
لم تمر ثلاثة أشهر على تصريحات كوشنير التي أغاظت المتشبثين بالسلطة في مشارق الجزائر ومغاربها حتى ألقيت على رؤوس هؤلاء صخرة أشد وقعا وإيلاما، لم يأت ذلك من فرنسي حاقد ولا من خائن لبلد ولا حتى من معارض للنظام، بل من رجل مجاهد كان من قادة ثورة التحرير الأقحاح وكان على رأس تنظيم قدماء المجاهدين في الجزائر ومن ألد أعداء فرنسا وأذيالها المنتشرين في دواليب الحكم في الجزائر كما يقول عنهم ويصفهم بحزب فرنسا، بل بعد هذا وذاك كان في فترة من عمره رئيسا للدولة الجزائرية. إنه علي كافي الرجل الذي تقلد عدة مناصب دبلوماسية وسياسية بعد الاستقلال قبل أن يتقاعد برتبة رئيس.
دعا علي كافي مجموعة من الصحافيين إلى بيته يوم الخميس الماضي ليدحض ما ورد في كتاب جديد ألفه زعيم حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية سعيد سعدي وجاء فيه أن مؤسس جهاز المخابرات الجزائرية العقيد عبد الحفيظ بوصوف وقائد أركان الجيش غداة الاستقلال العقيد هواري بومدين متورطان في اغتيال بطلين من أبطال ثورة التحرير العقيد عميروش والعقيد سي الحواس، العقيدان قتلهما الجيش الفرنسي في كمين محكم سنة 1959 لكن وثيقة فرنسية رسمية يقول سعدي إنه حصل عليها تكشف أن بوصوف وبومدين هما اللذان دلا جيش الاحتلال على مكان وجود العقيدين عميروش وسي الحواس. الرئيس علي كافي قال في دردشته مع الصحافيين إن هذا هراء ومغالطة تاريخية لا تعدو أن تكون دسيسة فرنسية أخرى لتشويه صورة قادة ثورة التحرير، لكنه في المقابل اعتبر إخفاء رفات العقيدين المغتالين في أحد أقبية مقر قيادة الدرك الوطني الجزائري لمدة عشرين سنة جريمة نكراء لا تغتفر وطالب العقيد أحمد بن شريف الذي كان وقت الفضيحة قائدا للدرك إلى الإدلاء بشهادته والكشف عن ملابسات هذه الجريمة، وللتذكير فإن جثتي العقيدين عميروش وسي الحواس أخرجتا بعد عام أو أقل من استقلال الجزائر من المكان الذي دفنهما فيه الجيش الفرنسي ووضعتا في صندوق محكم الإغلاق نقل إلى الجزائر العاصمة وبالضبط إلى قبو مقر قيادة الدرك الوطني في باب الجديد. قائد الدرك الذي تسلم الصندوق قال إنه فعل ذلك بطلب (أو أمر؟) من رئيس المخابرات آنذاك العقيد قاصدي مرباح بعد أن أخبره أن في داخله أرشيفا! ويضيف العقيد بن الشريف أنه بعد أن علم أن في الصندوق أرشيفا بشريا في غاية الأهمية سارع إلى إخطار رئيس الجمهورية آنذاك العقيد الشاذلي بن جديد الذي أمر بدوره بتحرير رميم العقيدين ونقله إلى مقبرة الشهداء من دون أية تبعات أخرى. عشرون سنة كان فيها جثمانا العقيدين عميروش وسي الحواس مخبأين بينما كان الجزائريون وأفراد عائلتي الضحيتين يعتقدون أن فرنسا خبأت جثتيهما في مكان مجهول.
هذا هو ما فعله زعماء وعقداء الثورة المباركة المظفرة بإخوانهم من جرائم قد تفوق اعتباريا ما فعله الاستعمار. لكن ليس هذا الذي يعنينا الآن من تصريحات الرئيس الأسبق علي كافي، بل ما قاله في حق نظام الحكم في البلد ومستقبل الجزائر وجيل الاستقلال. قال العقيد كافي إن الدولة الجزائرية (غائبة ولا وجود لها وفرطت في دورها، وفرطت في تاريخها، وفي تاريخ الجزائر، وذبحت الأجيال الحالية والأجيال القادمة ودمرتها، فنحن الذين عشنا النضال منذ بدايته، أنا شخصيا منذ الأربعينات إلى الآن، أرى اليوم طموحاتنا تسقط جملة واحدة، وأجد نفسي في الظلام، أجد نفسي أسير نحو المجهول). ثم يلتفت إلى الرئيس هواري بومدين الذي حكم الجزائر بين 1965 و1978 إثر انقلابه على الرئيس أحمد بن بلة (الذي انقلب بدوره على الحكومة المؤقتة) ويقول إن بومدين دمّر البلد وقد أحاط نفسه بضباط فرنسا وهم الضباط وضباط الصف الجزائريون الذين كانوا مجندين في صفوف جيش الاستعمار الفرنسي ثم تحولوا منه إلى الجزائر وصار عدد منهم ضباطا في جيش التحرير قبل أن يتولوا مناصب سامية في جيش الاستقلال وأيضا في أجهزة الدولة المختلفة.
لا يهمنا هنا حب أو كره العقيد علي كافي لضباط فرنسا الجزائريين فهو صراع أزلي بين هؤلاء وهؤلاء راح ضحيته الشعب في كل الأحوال والأزمان. أما الكلام الأخطر في تصريحات علي كافي فهي اعترافه بجريمة نظام الحكم في حق الأجيال الحالية والأجيال القادمة، نظام ذبح ودمّر جيل الاستقلال وأوصله إلى مصير مظلم. ملايين الشباب الجزائري لم يعد يهمه من حياته إلا أن يفر بجلده من بلده من دون أن يكترث إن كان سيسجن في أي بلد أوروبي أو يموت في البحر. شباب لم يترك له زبانية النظام الحاكم أي أمل في عيش كريم أو حتى في إطلاق أحلام جميلة تتسع لها بلادهم. نظام حاكم متسلط سخر لبقائه كل الوسائل المكروهة من دون أن يشعر يوما أن البلد يهوي بأهله إلى قاع الجحيم، ثروات طبيعية هائلة وأموال لا تنفد مقابل اقتصاد في الحضيض وفقر منتشر وفساد مستشر ويأس قاتل أطبق على جميع فئات الشعب، من أبسط شاب عاطل عن العمل إلى رئيس الدولة المتقاعد.
هذه هي الثورة التي شهدت اقتتالا داخليا بين قادتها وجرائم لا تغتفر ارتكبها جناح ضد جناح آخر، ولا نتحدث هنا عن البسطاء والمجاهدين المخلصين الذين ضحوا بحياتهم من أجل هدف شريف. وهذا هو جيل الثورة الذي حكم الجزائر ولا يزال يعض على الكرسي بأنيابه وقد أوصل البلد إلى مصير مظلم وامتص من شرايين شبابه أي أمل في حياة كريمة هانئة ثم زرع فيهم اليأس والقنوط وكره بلدهم. هذا ليس كلام مدع مغرض أو كاره للجزائر ولا كلام حاقد من أحفاد أو أبناء الاستعمار، بل هو ما يراه رجل خرج من رحم ثورة التحرير وتقلد منصب رئيس البلد. رجل يعترف أن الجيل الذي حكم البلد، وهو منهم بطبيعة الحال، هو سبب ما وصلت إليه الجزائر من سمعة سيئة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. هل ننتظر من أحزاب التحالف الرئاسي ومن منظمات المجاهين وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين وأصدقائهم أحبابهم ومن الكشافة وكل من يرضع من ثدي النظام أن يخرجوا في حملة منظمة ضد الرئيس علي كافي ويتهموه بالخيانة والعمالة لفرنسا أو بالجنون أو بالخرف. كوشنير قال إن العلاقات بين بلده والجزائر ستعود طبيعية وأخف توترا إذا غادر جيل الثورة في الجزائر الحكم، وعلي كافي الرئيس الجزائري الأسبق وأحد قادة الثورة يعترف أن خلاص البلد وأجياله القادمة لن يكون على يد نظام الحكم الذي دمّر البلد منذ سنوات الاستقلال الأولى.
ماذا بقي للجزائريين المستضعفين الآن أن يفعلوا؟ هل سيستمرون في شتم كوشنير لأنه قدّر أن جيل الثورة يجب أن يرحل بعيدا أم أنهم سيتفطنون يوما إلى أنهم صاروا كهشيم المحتظر وأن خلاصهم وخلاص أبنائهم من بعدهم لن يكون إلا بإجبار هؤلاء الجاثمين على صدورهم باسم شرعية مزيفة على الرحيل ليعود البلد إلى أبنائه المخلصين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ ما أسوأه من مشهد عندما يتفق عدو النظام وابن النظام على أن الحل وخلاص البلد لن يكون إلا في رحيل هذا النظام!