حازم صاغيّة


مدهشٌ حجم التجاهل العربيّ، لا سيّما لدى من يسمّون أنفسهم يساراً، لباراك أوباما الاجتماعيّ. فالرئيس الأميركيّ الذي تتّهمه القطاعات الأكثر غباء في يمين بلده بـ laquo;الاشتراكيّةraquo; وبـ laquo;الشيوعيّةraquo;، خاض معركة العناية الصحّيّة، ويخوض معركة ضارية مع المصارف الأميركيّة، كما غيّر النظام الضريبيّ لصالح من يحتلّون وسط الهرم الاجتماعيّ وأدنى شرائحه. وبدفع من إدارته، تتجمّع في بيئة صندوق النقد الدوليّ عناصر معركة أخرى تستهدف فرض ضريبتين على الأرباح المصرفيّة، واحدة مسطّحة وأخرى تصاعديّة. وهذا فيما يمضي اليمين الأميركيّ الأكثر شراسة في محاصرة أوباما على المحاور العرقيّة والطبقيّة والثقافيّة.

اليسار العربيّ، أو ما تبقّى منه، لا ينبس ببنت شفة. لا يعنيه الأمر. الأمميّون العرب، الذين يُفترض بهم تعريفاً الاهتمام بالأمم الأخرى، لا سيّما بـ laquo;شغّيلتهاraquo; وفقرائها، وبجمع نضالاتهم بنضالاتهم، لا يُسمع لهم صوت. أوباما الذي يعنينا هو أوباما على الجبهة الإسرائيليّة ndash; الفلسطينيّة. سوى ذلك الفراغ والعدم.

يزعم كاتب هذه الأسطر أنّ اليسار العربيّ، أقلّه منذ 1967، لم يكن سوى اسم لفصيل قوميّ آخر. ذاك أنّ الهزيمة التي وقعت آنذاك أقنعت جماعات قوميّة عربيّة بأنّ الناصريّة أضعف من أن تقوم بهذه المهمّة. هكذا انعطفت تلك الجماعات، واحدة بعد الأخرى، نحو موقف أكثر راديكاليّة يكون مضموناً في إتمام المهمّة المسمّاة قوميّةً. بعض هذه الجماعات وجد ما يعزّز انتقاله في التعويل على دعم أكبر يأتي من laquo;المعسكر الاشتراكيّraquo;. بعضه اهتمّ بالأمميّة، لا اهتماماً بما يجرى في العالم، بل بحثاً عن أبناء عمّ يشاركوننا مقارعة laquo;رأس الأفعىraquo;، أي، طبعاً، laquo;أميركاraquo;. هوشي منه وتشي غيفارا لعبا دور ابن العمّ، وأنا وابن عمّي على الغريب.

في المقابل، فاليسار الأكثر جدّيّة، أي الأحزاب الشيوعيّة التقليديّة، التي كانت تبلور تكيّفها مع وقائع بلدانها الوطنيّة، ما لبثت أن انجرفت في الموجة المسمّاة وطنيّة: الضغط السوفياتيّ المتحالف مع laquo;الأنظمة العربيّة الوطنيّةraquo; لعب دوراً في ذلك، وقمع laquo;الحلفاء الوطنيّينraquo; لعب دوراً آخر (راجع مصائر شيوعيّي السودان والعراق وسوريّة ومصر و... إيران، تتويجاً لطريق شقّه شهدي عطيّة وفرج الله الحلو). هنا، في الشيوعيّين، صدق تماماً المثل الشعبيّ: لا تأخذ صديقك إلاّ بعد قتلة.

الأوج هو ما يدلّ إليه التعاطف، ولو على استحياء أحياناً، مع محمود أحمدي نجاد، عدو العقل المحض. يقولون: صحيح أنّه يفعل كذا وكذا، ولكنْ لا تنس أميركا وإسرائيل. أمّا عقول الإيرانيّين وعقولنا، ثرواتهم وثرواتنا، حياتهم وحياتنا، فلا تستحقّ التوقّف عندها.

تقول هذه التجربة المؤلمة الكثير عن استخدام الحداثة استخداماً ذرائعيّاً وبرّانيّاً في مجتمعاتنا. فباستثناء حالات هزيلة لا تُذكر، لم يكن مرّة العالم وشواغله، والاقتصاد والعنصريّة والنسويّة الخ.، على جدول الأعمال الفعليّ لليسار. المهمّ فقط لا غير هو الصراع مع أميركا وإسرائيل. كلّ تلك اللافتات الحداثيّة صالحة للاستخدام ضدّ أطراف محليّة نصنّفها حليفة لأميركا أو تابعة لها، أو أنّها صالحة للتسلّي بها في الوقت الضائع بين مواجهتين مع laquo;الشيطان الأكبرraquo;. لكنْ حين تأزف المواجهة الفعليّة (وهي منذ سنوات قليلة ذات وتيرة يوميّة)، يصير laquo;المجتمع المدنيّraquo; مجتمعاً عسكريّاً، وتصير النسويّات رجّاليّات، واليسار يغدو يميناً، والنقد تبريراً.

ذاك أنّ توحيد القبيلة الكبرى شرط لمواجهة العدوّ، فيما تفتيتها لا يخدم إلاّ العدوّ عينه. ونحن، طبعاً، لا نستطيع أن نكون خارج laquo;الجماهيرraquo; ولا يمكننا أن نساهم في تفتيت laquo;الجماهيرraquo; وفي خدمة العدوّ. واضرب الطبل وخذ جماهير.