خليل العناني


عندما كتب الراحل سيد قطب كتابه الشهير laquo;المستقبل لهذا الدينraquo; كان يشير إلى أن الصراع بين الإسلام وغيره من الحضارات (المادية) سوف ينتهي لمصلحة الإسلام، وذلك انطلاقا من كون الدين الإسلامي دينا شاملا يقوم على مبدأين هما التصور الاجتماعي والتصور الاعتقادي (المادة والروح). وتلك حقيقة ربما لم يضف إليها سيد قطب جديدا سوى بلورتها في شكل أدبي رفيع كما كان يفعل في معظم كتاباته.
بيد أن المشكلة كانت -ولا تزال- في كيفية إنزال هذا التصور الشمولي للإسلام إلى أرض الواقع، وهي مشكلة تكاد تمثل قاسما مشتركا بين كافة الحركات الإسلامية بمختلف صنوفها وألوانها. فالمعضلة لم تكن يوما في الإيمان المطلق بأن الإسلام هو الدين الخاتم، وهو بهذه الكيفية يعني الاستمرارية والبقاء الأبديين، وإنما في كيفية تحويل هذه الكيفية إلى حقيقة عملية، وهي مهمة عسيرة وإن ظن البعض غير ذلك.
فأحوال المسلمين اليوم (مجتمعات وشعوباً وحكومات) تشي بعكس ذلك وهي تنتقص من فكرة العالمية التي جاء بها القرآن (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). أو كما يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه (كيف نفهم الإسلام؟): laquo;قد يكون معك الحق ولكن بطريقتك وأسلوبك يتحول إلى باطل، وقد يكون مع غيرك الباطل ولكن بطريقته وأسلوبه يظهر وكأنه الحقraquo; وهذه هي الحال اليوم مع غالبية المسلمين إلا من رحم ربي.
ويغيب عن معظم المسلمين دلالات الحديث الصحيح: laquo;الدين المعاملةraquo;، ولماذا لم يقل الرسول الكريم (الدين العبادة)؟ فالعبادة إن لم يصاحبها عمل صالح وسلوك يصدقها فهي كالحرث في الماء. وهناك كمّ هائل من الأحاديث النبوية التي تحض على العمل والاجتهاد وإبداء القدوة الحسنة.
مستقبل الإسلام لن يتوقف على ارتداء النقاب من عدمه، أو على إنفاق الملايين على بناء المساجد ورفع المآذن، وإنما على فهم الجوهر الحقيقي للرسالة وعالميتها، فهب أن مواطنا أميركيا أو أوروبيا أراد أن يعتنق الإسلام في هذه الأيام هل تراه يذهب إلى المسجد كي يتطلع إلى زخارفه وزينته، أم يذهب لعمله أو جامعته فيجد عالما مسلما أو طالبا تقيا يجتهد في إنجاز مهمته، مضافا إليها أمانة العمل وحسن المعاملة وبشاشة الوجه؟
مستقبل الإسلام، كما يراه الباحثون الغربيون، هو مستقبل التوازن بين الإسلام الشكلاني الانعزالي والإسلام الجوهري الراغب في الاندماج والتعايش. والآن لا يخلو سوق الكتابة الغربية من دراسات وكتب عن الإسلام، ولسوء الحظ، فإن معظمها كتابات تخلط الحابل بالنابل، ولا ترى في الإسلام سوى حالة بحثية وليست رسالة إيمانية عالمية. ومعظم الباحثين الغربيين يتعاطون معنا -نحن المسلمين- كما لو كنا فئران تجارب، فيجربون علينا نظرياتهم الاجتماعية، وذلك بسبب ما أصابنا من علل غريبة وشطحات دينية تضر أكثر مما تنفع.
انظر فقط إلى laquo;سوق الفتاوىraquo; التي فتحت على مصراعيها دون رقيب، وكيف تحول الدين إلى سلعة تتجاذبها الفضائيات، ويظن أهلها أنهم بذلك يخدمون الإسلام وينشرون رسالته. والعجيب أن هؤلاء جميعا يهاجمون غير المسلمين بضراوة انطلاقا من نظرية المؤامرة، وذلك من أجل تبرير تخاذلنا وتراجعنا. ونسوا أن الرسول الكريم ظل خمس عشرة سنة يدعو أهل مكة إلى دينه بالموعظة الحسنة والتذكير والنصح الهادئ.
ومعضلة كثير من دعاة الفضائيات أنهم يسفّهون العقل ويحقرونه ويرونه مصدر الفتن، ويقفون في وجه كل محاولة للاجتهاد بوصفها ابتداعاً، وكأنهم أوصياء على عقول الناس وضمائرهم، ونسوا قوله تعالى: laquo;ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملونraquo;.
وتبدو المشكلة أعمق حينما تتجه غربا فتجد أن كثيرا من الصفات الحسنة متجسدة في حياة البشر، وكأنهم مسلمون بالفطرة، وتتحسر على انعدامها في حياة المسلمين. وإذا حاولت تصحيح الخلل نعتك بعضهم بـraquo;التغرُّبraquo; أو laquo;التأمركraquo;، وإذا قدمت النصح لأحدهم استهزأ بك ونهرك دون أناة.
وهكذا تحول بعض المسلمين المقيمين في الغرب إلى عقبة في وجه الإسلام، وحالوا دون نشر مبادئه السمحة، ومنعوا وصوله إلى غير المسلمين، ونسوا قوله تعالى: laquo;إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمraquo;.