جلال عارف
بالصدفة البحتة طبعاً (!!) كان الرئيس الأمريكي أوباما يستقبل رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن في البيت الأبيض، في نفس اليوم الذي كان يجري فيه تمرير العقوبات الجديدة على إيران في مجلس الأمن.
وبالصدفة البحتة كان الرئيس أوباما الذي رفضت حكومته بكل إصرار أي إدانة حقيقية لجريمة إسرائيل ضد قافلة الحرية، واكتفى هو بإبداء عميق الأسف على ما حدث، كان يكتشف أن الوضع في قطاع غزة المحتل والمحاصر لا يحتمل.
ولكن بدلاً من التوجه مباشرة لأصل الكارثة وتحميل إسرائيل المسؤولية الكاملة عن ما حدث ويحدث باعتبارها قوة الاحتلال التي تخالف كل المواثيق الدولية و المعايير الأخلاقية، وتفرض على الشعب الفلسطيني في غزة حرب التجويع، يهرب الرئيس الأمريكي إلى ما تريده إسرائيل بالضبط.
وهو التعامل مع ما يجري في غزة على انه قضية إنسانية تحتاج إلى حلول اقتصادية تخفف من الأوضاع المأساوية التي يعيشها أكثر من مليون ونصف مليون مواطن فلسطيني في سجن غزة الكبير تحت الحصار المفروض من قوة الاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا يعلن الرئيس أوباما عن منح الفلسطينيين مساعدات جديدة مقدارها 400 مليون دولار يذهب جزء منها لمشاريع تتعلق بمياه الشرب، وإنشاء مدارس وتحسين البنية الأساسية في غزة، ويسهب في الحديث عن السماح بوصول المزيد من البضائع والخدمات للقطاع المحاصر، والعمل علي توفير فرص للعمل مع التأكيد بالطبع علي ضمان امن إسرائيل والعمل على وقف تدفق الأسلحة التي تعرض أمن إسرائيل للخطر.
إنه الأمن مقابل الغذاء وهو نفس ما يعرضه نتنياهو وحكومته ليس في غزة فقط، بل قبلها في الضفة حيث يرفض إيقاف الاستيطان ويقول إنه لم يكن يوما ولن يكون المشكلة، وإنما المشكلة أن نوفر ما يسميه بـ laquo;الأمن الاقتصاديraquo; لسكان الضفة من خلال تحسين ظروفهم المعيشية والسماح ببعض المعونات الخارجية من الوصول إليهم وإنشاء بعض المشروعات التي تخلق فرصاً للعمل.
وكل ما يطلبه مقابل ذلك هو الهدوء وعدم تعكير صفو الإسرائيليين وهم يستكملون السيطرة على القدس والتوسع في الاستيطان، ويتفاوضون مع السلطة الفلسطينية من أجل رفع بعض الحواجز أو تمرير بعض شحنات الاسمنت، وهي تنازلات يطلب في مقابلها تشجيع العرب على ركوب قطار التطبيع مع ترك سائقه الأمريكي يحدد المواعيد ومحطات الوقوف وعدد الصاعدين والهابطين في كل محطة.
ومع أن الرئيس أوباما قد أعرب في لقائه مع أبو مازن عن أمله في إحراز تقدم كبير في عملية السلام قبل نهاية هذا العام، ولكنه يعرف ـ مثل كل الأطراف- أن الطريق مسدود، ويدرك أن هزيمته أمام نتنياهو في معركة الاستيطان لم تترك له الكثير من الأوراق ليلعب بها.
ويدرك أيضاً أنه لم يعد أمامه إلا شهور قليلة قبل أن يدخل معركة الانتخابات الجزئية للكونغرس حيث يحتاج لدعم اللوبي الصهيوني أو على الأقل عدم الدخول في مواجهة حادة معه.
ولعل موقفه في أزمة قافلة laquo;الحريةraquo; ورفضه إدانة إسرائيل، وتقديمه كل المساندة لها لكي تنجو بجريمتها التي أدانها العالم كله، لعل ذلك كان يوفر له فرصة لكي يضغط على حكومة نتنياهو لكي يحصل منها علي شيء حقيقي في القضية الأساسية وهي وعده بتحقيق التسوية العادلة القائمة على حل الدولتين.
ولكنه ـ على العكس ـ لا يكتفي بمساعدة إسرائيل في أن تنجو من العقاب الدولي على جريمتها المروعة، بل الأخطر من ذلك أنه يستغل الفرصة، ويستغل الموقف العربي الضعيف والموقف الفلسطيني المنقسم لكي يدخل الفلسطينيين والعرب في متاهة بتجاهل الحقائق الأساسية الحاكمة للصراع وفي مقدمتها:
إن رفع الحصار عن شعبنا الفلسطيني العربي في غزة، هو هدف نبيل لابد من تحقيقه، ولكنه لا يمكن أن يكون بديلاً للهدف الأساس وهو تحرير الأرض الفلسطينية وإقامة الدولة، بل ينبغي أن يكون خطوة على هذا الطريق.
إن الوضع المأساوي في غزة (كما في الضفة والقدس) ليس قضية معونات غذائية أو شحنات اسمنت للبناء فقط، بل هي في الأساس قضية إنهاء احتلال وتحرير أرض وإقامة دولة عاصمتها القدس وليس غزة أو رام الله.
إن جزءاً مما يجري الحديث عنه من حلول، سواء برفع جزئي للحصار البحري أو تنظيم العمل على معبر رفح مع مصر، يتجاهل أساس المشكلة وهو الاحتلال، ويستهدف تكريس الانفصال بين الضفة وغزة، وهو أمر تسعى إليه إسرائيل من قبل سيطرة حماس على القطاع، بل منذ قامت السلطة الفلسطينية التي أصبحت سلطتين لا تملكان من أمرهما شيئاً.
إن فتح مصر لمعبر رفح ينبغي أن يستمر، ولكن الأهم أن تفتح المعابر بين الضفة وغزة، إن إنهاء المأساة الإنسانية التي يعيشها مليون ونصف من أشقائنا في غزة ورفع الحصار عنهم هو مطلب لا ينبغي الالتفاف عليه، ولكنه لن يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية التي تضم القطاع والضفة وترتفع أعلامها في قلب عاصمتها القدس.
إن الحديث عن الأمن مقابل الغذاء أمر يليق أن يصدر عن حكومة نتنياهو ـ ليبرمان، ولكن عندما يصدر عن إدارة أوباما، وبعد الجريمة الإسرائيلية في حق الإنسانية، وفي ظل الإدانة العالمية لها.
فعلينا أن نراجع حساباتنا حتى لا ينتهي الحديث عن وطن مستقل ودولة حقيقية، إلى شحنات من غذاء واسمنت لشعب مطالب بأن يوفر الأمن للمحتل لمجرد أن يبقى على قيد الحياة!!
التعليقات