احمد عمرابي
ديمغرافيا، تتكون جزيرة قبرص من قسمين متضادين: قسم مسيحي يحظى بحماية من اليونان.. وآخر إسلامي بحماية من تركيا. القسم المسيحي اليوناني نال عضوية الاتحاد الأوروبي دون أدنى جدل، لكنه رفض ولا يزال يرفض بعناد، دخول القسم الإسلامي عضوية الاتحاد.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن باب عضوية الاتحاد مغلق في وجه تركيا نفسها، فإن الرسالة تصبح واضحة استنتاجا، وهي: الاتحاد الأوروبي ناد مسيحي يتكون من دول مسيحية، فلا يجوز بالتالي فتح باب العضوية فيه لدولة غير مسيحية.
مع ذلك لم يشأ زعيما أكبر دولتين في الاتحاد، الفرنسي نيكولا ساركوزي والألمانية أنغيلا ميركل، أن يدعا أمر تركيا للاستنتاج والاستخلاص الضمني، فأعلنا على العالم بأعلى درجات الصراحة، أن الأسرة الأوروبية المسيحية لن تسمح إطلاقاً بانضمام شعب كالشعب التركي، يتكون من نحو 80 مليون مسلم.
ما لم نتفهم هذه الحقيقة الأساسية، فإننا لن نفهم طبيعة وجوهر تحول تركيا الكاسح من الغرب إلى الشرق، على نحو استقلالي وراديكالي، يشمل كذلك علاقة تركيا التحالفية طويلة المدى مع إسرائيل.
لقد مضى الآن ما يقارب خمسين عاماً، منذ أن تقدمت تركيا للمرة الأولى بطلبها الانتماء إلى أوروبا (من عهد السوق الأوروبية المشتركة إلى عهد الاتحاد الأوروبي)، دون أن يؤذن لها بالدخول. ومع توالي تراكمات المماطلة الأوروبية المنطوية على رفض ضمني، صار صريحا على لسان كل من فرنسا وألمانيا، أصيب الشعب التركي بكل فئاته بصدمة عارمة.
لكن رب ضارة نافعة. فقد أدت الصدمة إلى إيقاظ المشاعر الدفينة لاستعادة الهوية الإسلامية الأصلية للشعب التركي، وأصبحت النتيجة النهائية تتمثل في تبخر التراث الأتاتوركي العلماني، وارتفاع موجة الانتماء الإسلامي.
هذا التحول الحضاري الذي تصاعد واتسع نطاقه خلال السنوات العشر الأخيرة، هو الذي التقط مؤشراته laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; بزعامة رجب طيب أردوغان، لترجمته إلى توجهات سياسية تعكس بروز تركيا جديدة، بأجندة استراتيجية جديدة للتعامل على الصعيدين الإقليمي والدولي.
الغرب وإسرائيل يعارضان هذا التحول بطبيعة الحال، لكن الزعامات الغربية والإسرائيلية ترتكب خطأ جسيما، إذا تعاملت مع تركيا الجديدة على أساس أنه تحول عرضي وانفعالي، وبالتالي فهو تحول laquo;تكتيكيraquo; ظرفي وعابر.
في هذا السياق تقول الولايات المتحدة على لسان وزير الدفاع روبرت غيتس، ان التغيير الذي طرأ على توجهات السياسة الخارجية التركية، ليس سوى ردة فعل على رفض الاتحاد الأوروبي السماح لتركيا بالدخول.. وبالتالي فإن تركيا سرعان ما ستعود إلى حضن الغرب، إذا سمح لها بنيل عضوية الاتحاد.
هذا التحليل الأميركي قد يبدو من الوهلة الأولى منطقيا، لكنه ليس كذلك. فلو كان الرفض الأوروبي لعضوية تركيا نابعا من أسباب أو اعتبارات جيوسياسية، لكان هذا التحليل الأميركي صحيحا وسليما. لكن القضية أدهى وأمر، فهي تدخل في صميم سياق صراع الحضارات. ذلك أن الزعامات الأوروبية من خلال نبذها لتركيا، تطرح الحضارة المسيحية كترياق مضاد للحضارة الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى تنبيه الشعب التركي من غفلته عن هويته الحقيقية، على مدى العقود الزمنية الطويلة للأتاتوركية العلمانية.
حتى الآن لا يبدو أن الحكومات الغربية والإسرائيلية، تريد أن تتفهم جوهر التحول التركي وتبتدع سياسة جديدة تماما نحو تركيا بناء على هذا التفهم. ولذا فإن من المحتمل أن يقود سوء الفهم إلى صدامات خطيرة، تنشأ عنها تداعيات جسيمة. ومن يتأمل تطورات الأزمة السياسية المتفاعلة بين تركيا وإسرائيل، لن يسعه إلا أن يستنتج أن هذه التطورات تفيد بوقوع صدام حتمي.
على أثر الهجوم الدموي الذي شنته القوات الخاصة الإسرائيلية عند نهاية مايو المنصرم، على laquo;أسطول الحريةraquo; الذي كان متوجها إلى ساحل غزة، وراح ضحيته تسعة أتراك، اتخذت الحكومة التركية إجراءات أولية من شأنها خفض مستوى علاقة تركيا مع إسرائيل، من مستوى تحالفي نوعي إلى مستوى عادي. ومن ثم عمدت إلى تصعيد الوضع، بطرح أربعة مطالب على الجانب الإسرائيلي، هي: تقديم اعتذار رسمي عن الهجوم، ودفع تعويضات لأسر الضحايا، وقبول تحقيق دولي حول الهجوم، ورفع الحصار عن قطاع غزة.
إسرائيل ترفض هذه المطالب جملة وتفصيلا. ولكن ليس من غير المعقول إذا افترضنا أن أنقرة كانت تحبذ سلفا هذا الرفض، لاتخاذه ذريعة للمزيد من الإجراءات التصعيدية ضد إسرائيل، بحيث ينتهي الأمر إلى قطيعة تركية نهائية مع الدولة اليهودية، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والعسكرية، الأمر الذي يؤدي إلى حتمية الصدام.
وإذا جرت الأمور على هذا المنوال، فإن القطيعة التركية مع إسرائيل ستؤدي بالضرورة إلى نشوء صدام تركي مع الولايات المتحدة، تتخذه حكومة حزب العدالة والتنمية سببا للخروج من عضوية الحلف الأطلسي laquo;ناتوraquo;.
أما ما يحدث بعد ذلك من تداعيات مضاعفة، فإن من العسير جدا التنبؤ به.
صفوة القول إن على الطبقات الحاكمة في الغرب وإسرائيل، أن تدرك أنها الآن تتعامل مع تركيا التي دخلت مرحلة جديدة من الاستقلال، بعد أن تحررت من هيمنة المؤسسة العسكرية الأتاتوركية، التي جعلت منها خادما للمصالح الغربية والاستراتيجية التوسعية الإسرائيلية.
التعليقات