رضوان السيد


جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لوشنطن لتصطنع نوعاً من الهدنة بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي، فما تغير شيء ولا تبدَّل، واتفق الطرفان على رمْي الكرة في الملعب العربي، والملعب الفلسطيني المتهالك!

وكان الرئيس الفلسطيني في زيارته لـquot;واشنطنquot; قبل أسابيع قليلة، قد أوضح للرئيس الأميركي، كما أوضح من قبل للأوروبيين، أنّ المفاوضات غير المباشرة ما تقدمت سنتمتراً واحداً. وشكا الطرف الفلسطيني، بالإضافة لذلك، من أنّ الإسرائيليين ماضون على قدمٍ وساقٍ في الاستيطان بالقدس، وبالوتيرة ذاتها في الضفة الغربية، رغم ما سُمّي بالتخفيض الجزئي لذاك الاستيطان. لكن ما هو البديل؟ عند هذه النقطة صمت الطرفان. ومنذ ذلك الحين اتّبع الأميركيون سياسةً مؤدّاها الإعلان المتكرر عن التقدم الذي حصل في المفاوضات. على أنّ الرئيس الأميركي ما استطاع الإجابة على سؤال الملك السعودي في لقائه له بواشنطن عن ماهية التقدم الذي تحدث عنه. أما البديل العربي فقد صار معروفاً، وهو الاتجاه إلى الحلّ الدولي الذي كان وزير الخارجية الروسي يستكشفُ آفاقَه في زيارته للمنطقة. والأميركيون لا يكرهون شيئاً الآن مثل كراهيتهم للحل الدولي الذي لا يريد الإسرائيليون أيضاً أن يسمعوا عنه شيئاً، كما صارحوا الوزير الروسي. وللحلّ الدولي صيغتان: الاتجاه إلى مجلس الأمن بعد شهر أكتوبر، كما قرر العربُ في الجامعة إن لم تنفع المفاوضات غير المباشرة، أو للاتجاه نحو عقد مؤتمر دولي بموسكو كما تقرر في أنابوليس أواخر عام 2008. الأميركيون لا يريدون الصيغتين، لأنّ ذلك يُخرجُ المسألة من أيديهم، ولأنّ الإسرائيليين غير موافقين على هذا وذاك، لأنه لا مصلحة لهم في التذكير بالقرارات الدولية، كما أنه لا مصلحة لهم في متابعة العملية التي بدأت بأنابوليس.
وجاء نتنياهو إلى واشنطن وسط هذه الأجواء المُقْبضة. فهو لا يستطيعُ تحميل حكومته أكثر مما تحتمل، وهي بالكاد تحتمل استمرار التفاوض غير المباشر، وإن لم تكن له نتيجة. أما تغيير الحكومة الإسرائيلية أو تعديلها (استبدال ليفني بليبرمان) للسير في عملية السلام، فمشكوكٌ في فائدته، لأنّ الرأي العامّ الإسرائيلي لا يريد ذلك، ثم لأنّ ليفني ستضطر للتصلُّب للاحتفاظ ببعض الشعبية. وبالإضافة لذلك؛ فإنّ المقولة الإسرائيلية بعدم وجود quot;شريك حقيقيquot; في العملية السلمية تستمر وتتصاعد؛ وإلاّ- يقول نتنياهو- فكيف سينفِّذ أبو مازن ما يجري التوصُّل إليه، ما دامت quot;حماسquot; حاضرة ناظرة، وهي ضد التفاوُض، وترتهن قطاع غزة! وصعوبات الأميركي لا تقلُّ هَولاً عن صعوبات الإسرائيلي. فالمشكلات تتعقّد أمامه في العراق وأفغانستان واليمن، وعنده الانتخابات النصفية في نوفمبر القادم، وسيخسر فيها إن لم تحدُثْ عجيبة من العجائب، أمّا إذا وصل إليها وهو مختلفٌ مع نتنياهو؛ فإنّ أصوات أكثرية اليهود، ستزيدُ من خسارته.

على أنّ هذه الاعتبارات لدى الطرفين، والتي أعانت على التوصل إلى مُهادنة، ما أَنْهتْ التفكير في وضع الجانب المقابل. إذ لابُدَّ من الاحتفاظ بأبومازن بإعطائه شيئاً، ولابد من الاحتفاظ بـquot;المعتدلينquot; العرب. أما الأمر الأول؛ فإنّ الطرفين اتفقا على المزيد من الإجراءات لتسهيل الحياة على الفلسطينيين بالضفة، وربما الجلاء عن بعض النقاط والأماكن، وإيقاف بعض الإزاحات في القدس. على أنّ ذلك كلَّه لا يشفي الغليل، وعلى الخصوص بالنسبة للطرف العربي. ومن هنا كانت تلك الفكرة العبقرية: يعمد نتنياهو إلى تمديد فترة التجميد الجزئي للاستيطان بالضفة، مقابل ليس استمرار التفاوض وحسْب؛ بل تحويل التفاوُض إلى مُباشِر مقابل تمديد التجميد الجزئي للاستيطان! وهذا التمديد للوقف الجزئي والمؤقت للاستيطان ينبغي أن يبدو بمثابة تنازُلٍ كبيرٍ من جانب نتنياهو (وهذا إذا استطاع إقناع شركائه في الحكومة به!)، وينبغي أن تضغط الولايات المتحدة على العرب لاستمرار التفاوُض وتحويله إلى مُباشر. ويعرف الطرفان الأميركي والإسرائيلي أنّ في ذلك تأجيلاً لمأْزقِهما، لكنه لا يُعطي الفلسطينيين والعرب شيئاً. فتمديد التفاوُض يخدم الأميركي والإسرائيلي، لكنْ كيف يمكن إقناع أبو مازن والعرب بقبوله؟ هناك من جهة تجميد الاستيطان جزئياً أو الاستمرار فيه، وهذا تقدم. وهناك من جهةٍ ثانيةٍ الإنذار بأنّ انقطاع التفاوض يزيد من أخطار الحرب، واللجوء لمجلس الأمن لن يفيد العرب شيئاً، فالقرارات الدولية قائمة منذ الستينيات والسبعينيات، وهي ما أفادت ولن تفيد ما دام الإسرائيليون يعارضونها ويرفضون تنفيذها!

وما عاد نتنياهو إلى إسرائيل مستريحاً، لكنه استفاد أمرين: تحسين العلاقة الشخصية بينه وبين أوباما، وتأجيل التفكير في المشكلات لما بعد نوفمبر القادم! وبعد نوفمبر سيكون أوباما قد ازداد ضعفاً، وإذا انقطع التفاوُض عندها رغم كل شيء؛ فإنّ إسرائيل يمكن أن تُقْدم على حربٍ دونما اعتراضٍ أميركي.

ماذا يفعل الفلسطينيون والعرب مع العرض الأميركي الإسرائيلي؟ هناك ثلاثة احتمالات: الموافقة على استمرار المفاوضات (غير المباشرة) مقابل الوقف الجزئي للاستيطان. أو الموافقة على الانتقال إلى التفاوُض المباشر في مقابل الوقف الكلي للاستيطان. أو رفض هذا وذاك والاتّجاه لمجلس الأَمْن. وقد يرتئي طرفٌ عربيّ الاقتراح بالعودة لمجلس وزراء الخارجية بالجامعة العربية، ليتخذ القرار وسط الظروف الصعبة والمعقَّدة.

ومنذ عام 1973 صارت التسوية استراتيجيةً ليس بوسع أحدٍ إنكارها، وإن خرجت عليها بعض الأطرافُ باستمرار. وقد بلغ من تجذُّر هذه الفكرة أو المقولة أنّ quot;الحربquot; ذاتَها اعتُبرت أحياناً من مشجِّعات التسوية، لأنها لا يمكن أن تُشكِّل حلاًّ دائماً. وقد كان كلُّ طرفٍ يُعزِّي نفسَه في الانتكاسات بالفكرة القائلة إنّ الوقت يعملُ لصالحه. والظاهرُ الآن أنّ الوقت لا يعملُ لصالح الفلسطينيين، بسبب تفاقُم الاستيطان بالقدس والضفة من جهة، ولأنهم يزدادون انقساماً بين الضفة وغزة. لكنّ الكاتب اليهودي الأميركي البارز بانيرت يرى أنّ الوقت لا يعمل لصالح إسرائيل أيضاً. فقد نشر قبل شهر مقالةً بمجلة quot;نيويورك ريفيو أوف بوكسquot; ذهب فيها إلى أنّ المجتمع الإسرائيلي يتجه نحو اليمين، ولا يتقبل فكرة وجود الآخر الفلسطيني، ويفتقر إلى القيادات الرؤيوية التي ترى أبعَد من أَنفها، ويتجاهل أنّ هناك خمسة ملايين فلسطيني بين نهر الأردنّ والبحر المتوسط، وهم يزدادون عدداً وعُدّةً باستمرار. والجميع يعرف أنّ الحروب ليست حلاًّ، لكنّ الكثرة الساحقة لا تملك الشجاعة ولا الرؤية للسلام، وهكذا فالانفجار قادم ليس لدى الفلسطينيين وحسْب، بل لدى الإسرائيليين أيضاً!

إلى أين إذن؟ ليس إلى أيّ مكان، لكنّ الأميركيين وسط الافتقار إلى المبادرة اختاروا الضغط من أجل استمرار التفاوُض بدون هدفٍ آخر: التفاوض باعتباره بديلاً عن السلام!