مطاع صفدي
ما تتكشّف عنه الأزمة الاقتصادية المتمددة، من المآزق البنيوية الآخذة بتلابيب الرأسمالية الغربية، والتي كانت محجوبة عن أعين مجتمعاتها طيلة الحياة الرغيدة المرفهة في المرحلة السابقة على تفجر الأزمة، نقول لعل أخطر هذه المآزق المخفية، هو أن جميع دول الغرب، من صغيرها إلى كبيرها، غارقةٌ حكوماتُها المتتابعة في مستنقع من الديون الموصوفة بالسيادية. ما يعني ببساطة أن هذه الدول كانت تنفق ميزانياتها الهائلة وفق معدلات عالية تفوق مداخيلها بصورة مضطردة ومتضاعفة من عهد حكومي إلى آخر. وأنها كانت محتاجة إلى الاستدانة من بنوكها الوطنية والأجنبية ومن دول أخرى ومؤسسات عالمية؛ كما لو أن هذه الاستدانة تغطية لتكاليف الرفاه الكاذب الذي تغدقه الدول على الطبقات أو الفئات المحظوظة من شعوبها، وتترك غالبيات كثيرة منها تعيش على فضلات الرفاه أو أحلامه.
كيف يمكن مثلاً للمواطن الفرنسي أن يتلقى المعلومة الرسمية الكاشفة عن دين دولته البالغ هذا العام رقم ألف وخمسمئة مليار يورو فقط، وفي هذا الوقت الذي تملأ صفحات الإعلام أخبار فضائح النظام الحاكم بالرشاوى والفساد الأخلاقي والمالي، وينشر استفتاء صحافي عن رأي الناس في الطبقة السياسية، فتكون النتيجة أن خمساً وستين في المئة يتهمون رجال تلك الطبقة بالفساد. فلا حاجة إذن لأن يكون المرء ماركسياً أو شيوعياً ليثبت أن الرأسمالية والأخلاق ضدان لا يتفقان، إلا عندما تصبح الأخلاق مجرد دعاوى نفاق يتستر بها معظم رموز السياسة اليومية القائمة.
هنالك حقيقة أولية لا يمكن لأحد أن يدحضها، شائعة في بنية المجتمع الرأسمالي الغربي. وهي أن المال الخاص الكبير هو المسيطر على أهم شؤون الدولة، بدءاً من مناصبها السياسية العليا الحاكمة. عبثاً يمكن عزل الحملات الانتخابية عن التمويل المشروع، واللامشروع معاً. فالديمقراطية الغربية عاجزة حتى اليوم عن إنتاج دولة القانون، المحصّنة ضد القوى المتلاعبة بالنص القانوني ما بين تأويلاته وتطبيقاته. ما يعني أن هذه الديمقراطية فشلت في جعل سلطة الاختيار الشعبي متفوقة على سلطة المال، أو قادرة على تقنينها. فلا يخلو أي عهد رئاسي أو حكومي من الفضائح الدستورية والأخلاقية معاً. لكن قد يتبقى لهذه الديمقراطية ثمة فعالية في ميدان حرية التعبير. إذ قد يتاح لبعض الصدف الاجتماعية، أن تفجر فضائح إعلامية. فيعرف الناس فجأة ما كان بعضهم يعرفه قبل النشر والتداول العام لخصوصيات أرباب قصور المال والسياسة. حينئذ يأخذ الحدث صفة الفضيحة، التي بدورها ترفع الستائر عن جبهات من خصومات الصراع الشخصي والفئوي على مكاسب الثروة والنفوذ. وهنا أيضاً لن يترك للديمقراطية أن تمارس جوهرها الأصلي في انطلاق حرية التعبير، نقداً وتعرية وكشفاً. ضمن حدود مفهومها الذاتي، بل سرعان ما يُفرض عليها الاشتغال في غير ساحاتها، وفي خدمة غايات أخرى طاعنة في نزاهتها.
لقد برزت مديونية الدولة الأوروبية أخيراً كأنها فضيحة فضائح الأزمة المالية. وحاول الإعلام المسيس في البداية أن يتداولها كما لو كانت مشكلة عادية، ومن طبيعة الأمور السائدة في مجمل النظام الدولاني العالمي. لكن الأزمة حولتها إلى ما يشبه الكارثة المهددة بانهيار المجتمع، وليس بإفلاس بعض مؤسساته الاقتصادية فحسب. والأغرب فيما كشفته الأزمة أن الدولة الرأسمالية مدينة أولاً لمصارفها، وهذه بدورها قد أشرف بعضها على الإفلاس فاضطرت الدولة إلى مساعدتها من مالها المقترض في جزء منه، من هذه البنوك أو سواها. ما يمكن قوله إن عقلانية الغرب التي هي امتيازه، وعلّة تفوقه وفخاره على بقية الإنسانية، إنما يقوم نظامها الاقتصادي، إن لم يكن نظام مجتمعها ككل، على عبثية الصدف الطائشة. فاللامعقول وحده هو التفسير النهائي لحصيلة التجربة الرأسمالية التي لا تنتج في ذروة تطورها سوى نموذج مجتمع الديون الهالكة المتبادلة ما بين مؤسساته ودولته.
فكر الحداثة لا ينفي ثمة قيم إيجابية للامعقول ما دامت له القدرة على تحفيز المعقول ودفعه إلى تخطي حلوله الجاهزة، ومواجهة المشكلات المستجدة بما تتطلبه من إعادة فهم قادر على تغيير قواعده أو أدواته. وعلى هذا لا يبدو أن الغرب موشك على الاستقالة من تاريخ عقلانيته كلياً، ومرة واحدة، مهما تضرَّرت إنتاجات هذه العقلانية على أرض الواقع بفعل أعطالها الذاتية، أو بتأثير الأخطاء العامة التي ترتكبها سياسة الحضارة في حق وعودها، المنقلبة إلى أضادها، في نهاية المطاف.
ومع هذا يبقى السؤال: لماذا تتحول أغنى دول العالم فجأة إلى دول متميزة بمديونيات فلكية عاجزة عن سدادها اليوم أو غداً. هذا السؤال لا يبدو أن حداثة الغرب ستجيب عليه بسهولة. فليس هناك من يريد أن يحمِّل الرأسمالية كامل المسؤولية. فقد اخترع الفيلسوف إدغار موران مقولة سحرية دعاها سياسة الحضارة، لعلها تفيد في تفسير كيف أن حضارة الغرب لم تنجح تماماً بعْدُ في اختيار السياسة التي تكافئ مطامحها الإنسانية. هذا رغم أنها انخرطت في تجارب المعقول واللامعقول، من أحداثها وإبداعاتها الكبرى طيلة تاريخها الذي لم يعد يخصها وحدها، بل ألزمت الإنسانية كلها بدفع أكلافه من لحمها ودمها، مقابل إدخالها في عصر الصناعة كأسواق استهلاكية.. ومن ثم يرتدّ عليها، بعض هذه الإنسانية، منافساً لها، كاسراً لأعلى احتكاراتها في التصنيع والتوزيع واقتناص حتى أسواق الغرب من مصانعه وشركاته.
لكن هل من (مفهوم) الحضارة أن تختار سياستها، أم أن لكل حضارة شخصيتها المفهومية الصانعة لمختلف ظواهرها والمصنوعة هي بها كذلك. وبالتالي لن تكون سياستها سوى انعكاس سلوكي ذاتي وخارجي معاً لنموذج هذه الشخصية. وتلك هي عقيدة الغرب، فيما يفهمه عن ذاته. ولذلك يذهب الفكر اليميني عادة إلى التوحيد ما بين هذه الشخصية المفهومية والرأسمالية. بمعنى أنه لا فكاك للغرب من الرأسمالية، إلا بانفكاكه عن ذاتيته. وهنا يمكن لمفهوم سياسة الحضارة أن يلعب دوراً تأويلياً يسوّغ به عقلاء الحضارة قدرتها على تغيير سياستها، وذلك باستعادتها لحريتها في المبادرة الفكرية وسط معمعة الكارثة العظمى الراهنة عينها. وقد تنطلق هذه المبادرة المنشودة في رأي الإصلاحيين، من مركز العلّة، من لجم وتحديد سيطرة مؤسسة الصيرفة، على المؤسسة الإنتاجية (الاقتصاد). فالقول ان الرأسمالية استبدت بمجتمع الحداثة، لكن الصيرفة قد استبدت بالرأسمالية نفسها، أخيراً، كأنما أمست هي البديل الفعلي الراهن عن الرأسمالية وتاريخها. فلا عجب إذن، إن قيل أن القابض اليوم على سياسة الحضارة هو سلطان الصيرفة وحدها. وأن هذه السياسة تكاد تذهب بالرأسمالية نفسها إلى أبشع مصائرها.
فجيعةُ مثقفي الغرب، أن (الأزمة) قد أطاحت بآخر أقنعة النفاق التمديني التي كانت تخفي عندهم نزعات ازدواجية المعايير في استحقاق الكرامة الإنسانية لعرقهم المتميز من دون بقية البشرية. فالعيش في ظل رفاهية مصطنعة، يتجاهلون أسبابها أو مواردها الحقيقية، جعلهم يغضون الطرف عن تصرفات حكوماتهم إزاء قضايا الحريات والتقدم لغالبية الشعوب المستضعفة. وقد اعتقد معظمهم أن مجتمعاتهم محصنة ضد أمراض الآخرين وكوارثهم المزمنة. في حين طغت فلسفات الفردانية المطلقة على سلوك جماعاتهم، أخرجتهم من حقول الاهتمامات العامة، ونأت بهم عن المشاركات السياسية، ما أضعف الرقابة العامة على التحولات الخطيرة التي راحت تنتاب نظامهم الاقتصادي خاصة، وتحرفه بسرعة هائلة عن توازناته مع المصالح العامة. بحيث يستيقظ الناس فجأة، ونخبهم الثقافية والقيادية في المقدمة، على حقيقة الرفاهية، كأنها أمست فقاعةُ من بين فقاقيع الاقتصاد الوهمي عينه الذي أفقد الغرب عوامل تفوقه الأصلي.
يصحو الناس بغتة على انهيار أسس حياة افتراضية مشتقة كلها من تهاويل اقتصادهم الافتراضي. هل كانوا يعيشون في حلم، أو أنهم أمسوا منجرفين في تيار خديعة جماعية شاركوا في صنعها دون أن يدروا. صفاراتُ الإنذار بكل الأخطار، تنطلق من كل حدب وصوب، لكن معظمها لا يطلق صراخه إلا بعد فوات الآوان. أغنى حكومات أوروبا، ألمانيا وانكلترا وفرنسا تعلن سياسات التقشف. ما تعنيه هذه السياسات بالفعل هو العيش على حوافي الفقر مجدداً. ومن ستقع عليه أعباء التقشف أو القبول بالحرمان ومشتقاته هي الطبقات الوسطى، المتدحرجة يومياً نحو الطبقات الدنيا التي نسيتها طيلة أيام السعادة الاستهلاكية الضائعة.
أرباب الاقتصاد الافتراضي، هذا المصطلح المجاني المهذب، من ساسة ورجال أعمال ومؤسسات اقتصادية وإعلامية، هم أنفسهم أصبحوا من دعاة التقشف والمنظرين لمنافعه (الوطنية) الجمة، التي ستعم الجميع.. حتماً، لأنها تطالب الجميع بإعادة التلاؤم مع حياة الكفاف التي لن تستثني أحداً، إلا أصحاب المصارف وشركاءهم المعهودين من ساسة وإعلاميين. وأما المثقفون فإن (الأحرار) منهم سوف يعودون إلى دفاترهم الماركسية العتيقة يستمدون منها تحليلات جديدة للصراع الطبقي / الأممي الراهن.. أو بالأحرى لقانون بزوغ الحضارة وأفولها. لعلهم يواجهون أحد أهم تمارينه الدهرية في قصة هذا الغرب مع ذاته أخيراً، وبعد أن كاد يستنفدها مع العالم
التعليقات