سليمان تقي الدين

عادت كل عناصر الانقسام تطل برأسها في كل المجالات والميادين . الحكومة تحاذر الانفجار فتنقل القضايا الخلافية إلى مجلس النواب . في المجلس النيابي يعالج الانقسام بتطيير النصاب . لكن ليست كل القضايا من نوع اتفاقية أمنية مع فرنسا أو أمريكا، ولا تشريعات لحقوق اللاجئين الفلسطينيين ولا موازنة مالية عامة . هناك قرارات سياسية وأمنية ومواضيع شديدة الحساسية توقيتها لا يتم في الداخل مثل دور قوات الأمم المتحدة والمحكمة الدولية . حتى هذه اللحظة لم يظهر الفرقاء مسؤولية وطنية في التعاطي مع هذه التحديات والمخاطر . كأن دور ومستقبل القوات الدولية في الجنوب يعني فريقاً وحده، أو أن قرارات المحكمة الدولية قد تصيب فريقاً بعينه . أما ما تداعيات هذه التطورات على مجمل الوضع الداخلي فلا أحد يتعامل معها على هذا الأساس .

هناك من يعتقد أن انفلات الوضع الأمني في الجنوب، في نزاع مع قوات الأمم المتحدة، أو في عدوان صهيوني جديد، يمكن أن يوظف في التوازن السياسي الداخلي، وأن قرارات المحكمة الدولية تحاصر فريقاً وتسهم في تحجيم دوره أو تضعفه لكي يقبل خيارات وطنية معينة . يكاد هذا النوع من التفكير السياسي يلامس حدود الخطيئة الوطنية أو الجريمة الوطنية، لأن ثمن هذه التداعيات يأخذ من رصيد كل لبنان، ولأن وهم التطويع والترويض لهذا أو ذاك من الفرقاء صار مكسوراً وخائباً . بل إن الخطر الأكبر على لبنان أن تستثمر هذه الضغوط الخارجية في لعبة الصراع على السلطة . سياسات العزل أو الاستفراد أيّاً كانت أسبابها لا تنتج إلّا توترات أهلية تتجاوز الأحزاب والقوى السياسية إلى الجماعات الطائفية . تسقط المعايير الأخلاقية والوطنية في سلوك الجماعات عندما تشعر بأن خطراً ما يتهددها وتستخدم المشروع وغير المشروع من وسائل الدفاع عن وجودها، سواء أكان هذا الخطر الماثل واقعياً أم متخيّلاً . في مجتمع لديه كل هذه النزاعات والهواجس ولديه كل هذا الضعف أمام مداخلات الخارج ومصالحه يصعب إنتاج توازنات على منطق القوة أو الهيمنة .

فالقوة الشرعية الوحيدة، قوة الدولة والسلطة العامة ما زالت مصدر الخلاف الأساسي، وهي في حال من الضعف والضمور ما يفقدها القدرة على التصرف باسم المجتمع كله . فلا مرجع لدينا لحسم النزاعات بالقوة، ولا شرعية عندنا لضبط الصراعات وفق القواعد القانونية أو الأخلاقية أو القيمية الوطنية . لقد أضعنا كل الفرص المتاحة لبناء هذه المرجعية وهذه القوة وذهب كل الفرقاء إلى تقوية مؤسساتهم الخاصة على حساب الدولة . وها نحن لا نملك أفقاً لفضّ هذه النزاعات إلا الحرب الأهلية الباردة حيناً والحارة حيناً آخر . وهي نفسها الحرب لا تأخذنا إلا صاغرين مجدداً لمرجعية خارجية تملك القدرة على قمعنا وإخضاعنا وترتيب وإدارة شؤوننا . وليس مصادفةً أن الناس تلهج اليوم بأن الوضع القلق والرجراج لن ينتج إلّا المزيد من التدخلات الخارجية واحتمالات الوصاية .

لن يتوقف الخارج عن السعي إلى إبقاء هذا البلد ضعيفاً في وحدته ومناعته . كان لبنان ولا يزال هذا الحاجز الرخو لتبادل الضغوط بين الدولة الصلبة صاحبة المشاريع والطموحات الإقليمية . تشكلت في لبنان، اليوم، نتيجة ظروف إقليمية نواة قوة تسمح لنا أن نواجه الخطر الصهيوني وأن نضعف طموحاته وقدرته على السيطرة . هذا الإنجاز الوطني نتبرم منه اليوم ونتعامل معه كنقيصة بدلاً من أن نضعه في صلب مشروع الدولة ونبني عليه لتقوية حضورها .

لقد سمعنا الكثير عن مشروع ldquo;لبننة هذه القوةrdquo;، لكننا لم نلحظ إجراء واحداً في هذا الاتجاه يعتبر اللبننة وطنية جامعة في وجه ldquo;إسرائيلrdquo; أولاً واستقلالاً واستطراداً بوجه المؤثرات الأخرى . صارت اللبننة حياداً في صراع لا نملك السيطرة عليه، وفي وجه عدو يعلن ويمارس سياسة الهيمنة من دون أية روادع أو قيود . هو من احتل أرضنا ونشر شبكات التخريب والإرهاب وأقام علاقات التطويع مع بعض المجموعات السياسية ويكشف عن أهدافه في عدم استقرارنا . لم نكن يوماً أبرياء من المطامع والطموحات والاختلافات، لكننا بضعفنا هذا صرنا ضحايا هذا التلاعب بمصيرنا تحت وطأة المداخلات الدولية وقراراتها . لن تحل مشكلاتنا كلها بالمرابطة على الحدود والمواجهة العسكرية مع العدو .

هنا في الداخل اللبناني دولة مخلّعة، وعدالة مشوهة، ومظالم اجتماعية وسياسية وامتيازات وحرمانات وجماعات مسكونة بالخوف وغياب الأمن وغياب الحرية .

لم يظهر الفرقاء اللبنانيون قدراً من المسؤولية في التعامل مع التحديات التي واجهوها منذ خمس سنوات . هم يثبتون كل يوم عجزهم عن إدارة شؤونهم باستقلال عن الآخرين . وحدها المؤسسة العسكرية استطاعت أن تقف على حد السيف وأن تحمل مشروع الدولة وتحميه .

لكن هذه المؤسسة تحولت إلى أمن داخلي وقوة فض اشتباك وتراجع دورها على الحدود الخارجية، وهي تتعرض اليوم للعديد من السهام السياسية . ما زالت هذه المؤسسة تقاوم محاولات استخدامها سياسياً، لكن قدرتها على الصمود مرهونة أيضاً للقرار السياسي الكبير بعدم نشر الفوضى في البلاد . اذا كان صحيحاً ما أشيع عن تحضير لأجواء الفتنة بشكل أو بآخر، فإن أية قوة أمنية لا تستطيع لجمها . الأمن هو قرار سياسي بالدرجة الأولى .

تزايد الحديث مؤخراً عن الخريف الساخن وعن استحقاقات كثيرة تجري في المنطقة . تتجه الضغوط نحو المناطق الرخوة لاستخدامها في تعديل موازين القوى . لبنان بهذا المعنى الساحة الأكثر انكشافاً على هذه الضغوط والأكثر تأثيراً في توازنات النظام الإقليمي . ldquo;مجلس العلاقات الخارجية الأمريكيةrdquo; يضع تصورات لحرب قادمة، لبنان هو دائماً في قلبها، سواء أكانت تلك الحرب تستهدف إيران أو سوريا أو إنهاء تعقيدات الوضع الفلسطيني وحتى محاولة الحد من دور اللاعبين الإقليميين في العراق .

رئيس أركان الدولة العبرية ldquo;أشكنازيrdquo; يحذر من أن سيناريو الفتنة في لبنان سيغيّر صورة هذا البلد مع صدور القرار الظني عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في الخريف . قد تكون حكمة الفرقاء اللبنانيين غير كافية لضبط الأوضاع واحتواء الضغوط . وحدها التفاهمات العربية واستدراك هذه الأخطار قد تساعد على حماية لبنان . فهل هي ممكنة!؟ .