فهمي هويدي

أعلن رسميا في رام الله أن الطالبة نور إسماعيل من مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة حصلت على المركز الأول متقدمة على كل طلاب الثانوية العامة في فلسطين (الفرع العلمي). وذكر الإعلان أن أربعة من أبناء القطاع ضمن العشرة الأوائل الذين نجحوا في القسم العلمي، أما العشرة الأوائل في القسم الأدبي فقد كان ستة منهم من أبناء غزة. ليس هذا خبرا عاديا، لأن مدارس القطاع التي دمرت والأساتذة والطلاب الذين قضوا عامهم الدراسي في ظل ظروف غاية في التعاسة والبؤس، وأجواء الحصار الوحشي المفروض على غزة، هذه كلها عوامل تهيئ الأذهان لاستقبال نتيجة مغايرة تماما. إذ ربما كان مجرد النجاح إنجازا كبيرا، ولكن حين تصبح الأولى على القسم العلمي فتاة من خان يونس وعشرة من الأوائل في القسمين العلمي والأولى من غزة، فإن طعم الإنجاز يصبح مختلفا تماما.
لقد أمضى تلاميذ القطاع وتلميذاته عامهم الدراسي في حين تعاني المدارس أو ما تبقى منها من النقص في الأساتذة وفي الكتب والكراريس والأدوات المدرسية والمقاعد، ناهيك عن فترات انقطاع التيار الكهربائي، التي كانت تضطر الطلاب إلى استذكار دروسهم على ضوء الشموع أو باستخدام لمبات الجاز التقليدية. ولن أتحدث عن أجواء التوتر السائد بسبب استمرار الحصار والغارات الإسرائيلية التي تتم بين الحين والآخر.
من الخارج يبدو ذلك أمرا مدهشا، وهو كذلك لا ريب، لكننا إذا تأملنا المشهد في داخل القطاع فسوف تتسع دائرة الدهشة وترتفع وتيرتها. أعني أننا إذا اعتبرنا تفوق بعض طلاب القطاع، في ظل ظروف التعجيز التي يعيشون في ظلها، باعثا على الدهشة، فإن تلك الدهشة يجب أن تتضاعف إذا ما وقفنا على الكيفية التي تستمر بها الحياة في القطاع في ظل المستحيل الذي يطبق عليهم من كل صوب.
هو وضع أقرب إلى المعجزة، أن تتمكن عبقرية الشعب الفلسطيني من إدارة عجلة الحياة في القطاع، في ظل ظروف التدمير والحصار للعام الثالث على التوالي، بدرجات مختلفة من الكفاءة، وهي التي مكنت ذلك الشعب المدهش من مقاومة الانكسار والتركيع. بحيث بدا في النهاية أن فشل إسرائيل في دفع القطاع إلى الاستسلام في حربها التي استخدمت فيها مختلف أسلحة الفتك والدمار، استصحب فشلا آخر لكل الذين راهنوا على تركيع القطاع بالحصار وهدم الأنفاق. وبالسور الفولاذي وغير ذلك من أساليب التضييق والتنكيل.
إن عزيمة الشباب الذين حققوا تفوقهم الدراسي المدهش، لم تختلف في شيء عن عزيمة الأطباء الذين صنعوا معجزات أخرى في إدارتهم للمستشفيات وإجراء الجراحات وتهيئتهم غرفا للعناية المركزة اعتمدوا في تجهيزها على بقايا الأجهزة المدمرة، وعلى خامات أخرى بدائية. وما فعله هؤلاء فعله نظراؤهم من المهندسين والبنائين والحرفيين والمزارعين، الذين تحدوا الحصار والقهر بقدرتهم الفذة على تحقيق المستحيل.
إن فكرة الأنفاق ذاتها من دلائل تلك العبقرية التي اقترنت بالعزيمة الجبارة، التي مكنت أهل غزة من تحدي الحصار والسخرية منه والانتصار عليه. حتى باتت تلك الأنفاق صورة جديدة للمقاومة، فاجأت الذين راهنوا على تركيع الفلسطينيين وإلحاقهم من خلال الحصار بجماعة المنبطحين الذين دخلوا في بيت الطاعة الإسرائيلي.
لقد قرأت على ألسنة نفر من الذين زاروا القطاع إعرابهم عن الدهشة لأن الكثير مما يحتاجه الناس متوافر في الأسواق. وهي حقيقة لا فضل فيها لأحد، وإنما ذلك الفضل يرجع أولا إلى قوة عزيمة الشعب الفلسطيني وإصراره على تحدي إعصار الحصار وجبروته، ويرجع ثانيا إلى المعونات التي قدمها الشرفاء والنشطاء لأهل غزة.
لقد نجحوا بامتياز في مقاومة الإذلال والتركيع، لكنهم لا يزالون يحتاجون الكثير للنهوض وإصلاح ما دمره انقضاض الأعداء وما أفسده تآمر laquo;الاعتقاءraquo;. ولا أعرف إن كانوا لا يزالون يأملون خيرا أم لا في أهل القرار من بين الأشقاء، بعدما كشفت التجربة عن أن بعضهم كان عليهم وليس لهم، واختاروا أن يكونوا أعزة على المؤمنين وأذلة على المعتدين.