علي مكي

الناس في حقيقتها، في داخلها، وفي فطرتها تريد أن تتعايش وتتلاقى على الخير والحب والتسامح ويبقى الدين ومن هو على الصراط الصحيح السوي ومن هو عكس ذلك يبقى ذلك لله ومرده إلى الله هو يحكم بين عباده

ما يدور في المنتديات والمواقع الإلكترونية وغير الإلكترونية، بخاصة في الساحات و(بعض المجالس) والتجمعات، من تلاسنات وشتائم وضغائن وكراهيات وأحقاد وتحريضات وتكفيرات، فيما يخص السنة والشيعة أو الشيعيين والسنيين، هو عبث صبية وطيش جُهّال وصفاقات صغار وحماقات مراهقين وهذيان مرضى، وكل ذلك نتيجة تدبير المفتنين من أصحاب الهوى السياسي! لأن كل هذا الجدل التحريضي وغير الجميل الذي يحدث هنا وهناك لا يعكس حقيقة الناس في المذهبين ولا يكشف صدق واقع الناس البسيط بشفافيته ونصاعته ونزاهته من لوثة الايديولوجيا وترفعه عن كل ما يحاولون إلصاقه بهذا الواقع لإفساده و(تثويره) وإشعاله بأعواد ثقاب الفتنة القبيحة!
سأنقل لكم حدثين متقابلين عشتهما في الحالتين ويجسدان حقيقة أهل المذهبين من عامة الناس وكيف ينظران لبعضهما؟.. الحدث الأول قبل عدة أعوام، عندما دعاني الدكتور محمد الرميحي (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب) لحضور معرض دولي للكتاب ضمن مهرجان القرين السنوي في دولة الكويت الشقيقة، وقد كان لكل ضيف من ضيوف المعرض سيارة وسائق خاصان به تنقله للفعاليات المصاحبة وإلى حيث يشاء ويرغب داخل الدولة المضيفة، كما هي تقاليد دعوات المهرجانات الثقافية في الكويت.
وصادف أن كان يوم الجمعة أحد الأيام الخمسة التي قضيتها هناك، وأذكر أنني نبهت على سائقي أن يأتي إليّ في الفندق في وقت مبكر من ذلك اليوم لكي ألحق بالجمعة من أولها ولتقدم دخولها بساعة أو أكثر في الكويت.
المهم أن سائقي جاء مشكوراً في موعده ولم تمر سوى دقائق معدودات حتى أشار عليَّ بالنزول قائلاً هذا هو المسجد، والذي ما إن دخلته حتى رأيته مختلفاً قليلاً عن الجوامع التي أقصدها لصلاة الجمعة وكانت ساحته الخارجية مليئة بالملصقات والأذكار والشواهد للشخصيات الإسلامية المجيدة.
دخلت المسجد فلاحظت أنني المصلي الوحيد بينهم الذي لم يأت حاملاً شيئاً صغيراً يضعه أمامه في موضع سجوده كما يفعلون ومع ذلك أديت تحية المسجد بطريقتي السنية التي أعرفها وكما أفعل دائماً.
نعم شعرت بخوف كبير فربما ينقضون عليّ قبل الصلاة أو يقذعونني بكل قاموس الشتائم قبل أن يوسعونني ضرباً ومن ثم يطردونني أخزى وشر طردة!!، لكن المفاجأة أن أحداً لم يلتفت إليّ، بل أكملت جلوسي بينهم وصليتُ معهم دون أن أسبل أي بطريقتي السنية واستمعت إلى خطبتهم إلى أن خرجت من المسجد وقد هالني أن أحداً لم يسألني مثلاً: ما الذي جاء بواحد مثلي إلى هنا؟ بل إن واحداً من عشرات المصلين لم يحدجني بنظره لا استنكاراً ولا استفهاماً ولا حتى لقافة!!
وخرجت كما دخلت لأجد السائق بانتظاري ضاحكاً لأهرع إلى الهاتف وأتصل مستفسراً عن صحة صلاتي؟ فأزال عني شيخي كل توجس حين طمأنني بأنه لا مشاحة عليّ لأن الأعمال بالنيات وهو ما كنتُ مطمئناً له قبلاً، في قرارة نفسي.
وقبل أقل من ثلاث سنوات كنت في مدينة جدة أراجع إحدى شركات القطاع الخاص لأكثر من يوم وفي أسابيع مختلفة لكنها متقاربة، وفي كل مراجعاتي وترددي على الشركة كان وقت صلاة الظهر يدخل وأنا موجود هناك فأذهب إلى المصلى الخاص بهذه المؤسسة أعلى البناية، وكانت هناك جماعات تصلي تباعاً بحسب فراغهم من أعمالهم، وكنتُ أرى أيضاً أشخاصاً من إخواننا الشيعة في أركان المصلى وفي جوانبه يؤدون فريضتهم المكتوبة كما يعتقدون وفي ذات المصلى دون أن يحمل طرف على آخر أو يشنع هذا على ذاك أو يخطىء ذاك هذا!! وكما يلتقون قبل الصلاة بنفس الوجوه الهاشة الباشة المتسامحة يمدون لبعضهم البعض بأسباب المحبة والألفة والمودة والتآخي، كانوا يخرجون عقب الصلاة وقد زادوا بشاشة وألفة ومحبة ومودة وتسامحاً وتآخيا!!
من هنا، ومن خلال الصورتين السابقتين، أيقنتُ، ببساطة، أن الناس، في حقيقتها، في داخلها، وفي فطرتها تريد أن تتعايش وتتلاقى على الخير والحب والتسامح ويبقى الدين ومن هو على الصراط الصحيح السوي ومن هو عكس ذلك يبقى ذلك لله ومرده إلى الله هو يحكم بين عباده وهو سبحانه من ينجي ومن يهلك بمشيئته وإرادته، أما ما يدعيه أصحاب التعصب والتحريض سواء من هؤلاء أو من هؤلاء فهو لا يمثل الناس والمجتمع من المذهبين، وهو ليس سوى محض هراء تطلقه رؤوس الفتة في كل زمان ومكان وما أكثر هؤلاء المندسين بيننا ولكن الله على نصر المتسامحين لقدير.