ميشيل كيلو
يعاني عالمنا من أزمة قيادة، لها من دون شك أسباب ذاتية تتصل بالمجتمعات والبشر، وأخرى موضوعية تتخطى إرادة الناس، وتتجسد أساساً في استحالة إدارة العالم من قبل بلد واحد، مهما كانت قيادته بصيرة وكونية الولاء . من الناحيتين النظرية والعملية، ليس ممكناً تحت أي ظرف توفيق مصالح بلد واحد مع مصالح بقية دول وشعوب العالم، أو إحلال مصالحه محل مصالحها، وتبعاً لذلك، يستحيل أيضاً بلورة سياسة تعبر عن مصالح عالمية غير محددة أو ضعيفة التعيين، تتخطى بلداً بعينه وفئات محددة منه وتتطابق مع مصالح العالم الشديدة التنوع، المتناقضة والمتضاربة، التي تمثلها سياسات معروفة ومحددة بدقة، من مهامها مواجهة مصالح بلدان أخرى كثيرة العدد، تعبر عنها بدورها سياسات مخصوصة هدفها الدفاع عنها تجاه من تتجاوز مصالحهم وسياساتهم حدود أوطانهم إلى العالم، حيث لا تلقى الترحيب، إن لم تتطابق مع مصالحه ورغباته، علماً بأن التطابق ضرب من المحال .
هذا السبب موضوعي، لا سبيل إلى تجاوزه بأية وسيلة أو طريقة أو تفاهم، لذلك، ستوجد دوماً مشكلة سياسية عالمية مع أية قيادة تريد الانفراد بإدارة العلاقات الدولية، خاصة إن تنطعت لهذه المهمة ضد وخارج مؤسسات الشرعية الدولية، كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عامة، والبلدان التي يمكن للانفراد الإضرار بمصالحها ودولتها .
ثمة أزمة قيادة تجتاح عالمنا نجمت عن محاولة إقامة نظام دولي واحدي القطب، تحتل أمريكا قمته، ويسمح لها بتقرير شؤون ومصائر بقية الشعوب والدول . إنها أزمة مستقلة عن نمط ونوع القادة الأمريكيين، ولا تتعين بما لديهم من مؤهلات وأفكار، لأن مصدرها ليس هذه القيادة، بل استحالة إدارة العالم بقبضة قليلة من الرجال، لاستحالة بلورة قواسم ومصالح مشتركة تقبلها هويات ودول قومية ووطنية متباينة، لكل منها خصوصيته وميراثه الثقافي، المختلف باختلاف حملته . . . الخ .
إلا أنه توجد أيضاً أزمة قيادة ذات سمات وأبعاد ذاتية، تعبر عن نفسها في نوع القادة، وما يرسمونه من سياسات، ويعتنقونه من أيديولوجيات وآراء، ويعبرون عنه من مصالح . . . الخ . هذه الأزمة تثير قلقاً دولياً متعاظماً، وهي التي قصدتها بالحديث عن أزمة قيادة في عالمنا الراهن .
ثمة مستويات لهذه الأزمة، هي مستوى محلي، وثان شخصي، وثالث ثقافي/ أيديولوجي، ورابع دولي .
يتجلى المستوى المحلي في افتقار قيادات البلدان المتطورة إلى غطاء شعبي يمدها بقوة تمكنها من تجاوز عراقيل البيروقراطية الحكومية وجماعات الضغط . إن عدد من ينتخبون الرؤساء ويختارون النواب يتراجع في بلدان العالم الكبرى وقد بلغت نسبة من اقترعوا لكلينتون حوالي 24% من الأمريكيين، مع ذلك فاز بالرئاسة . امتنع قرابة ستين في المئة من الأمريكيين الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فلم يحظ كلينتون، أحد أكثر رؤساء أمريكا نجاحاً، بغطاء شعبي وغدا ألعوبة في أيدي بيروقراطية حكومية وحزبية قيدت دوره . ينطبق القول نفسه على رئيس فرنسا، ورئيسي وزراء بريطانيا، وإيطاليا، فقد افتقر هؤلاء إلى دعم شعبي يمكنهم من تحقيق وعودهم . وليس سراً أن أوباما يتمتع بثقة ودعم عدد متناقص من مواطنيه، انخفض مؤخراً إلى ما دون أربعين في المئة منهم، لذلك صار ميالاً إلى تجميد ما قد يضر بسمعته، أو يؤدي إلى خسارة أغلبيته الحزبية في انتخابات الكونغرس القريبة .
يظهر الوضع الشخصي تدني سوية قيادات البلدان المتقدمة، التي تتحكم بقراراتها بيروقراطية ومنظمات ضغط تتبنى مصالح جزئية وخارجية المنشأ . ومع أن قادة البلدان الغربية لا يقررون أي شيء بمفردهم، بل ولا يقررون في ظروف وملابسات معينة أي شيء، فإن مستواهم تدنى في كل مكان، ويستغرب مواطنون إيطاليون كيف أمكن لرجل كبرلسكوني احتلال رئاسة الوزارة، وهو شخص قليل الخبرة والكفاءة يمضي جل وقته في مطاردة المراهقات، رغم أنه في الثالثة والسبعين، هناك شكوك واسعة الانتشار حول شركاته ومؤسساته ومصالحه، التي كونها من أنشطة مشبوهة حقق القضاء فيها مرات متكررة . تفضح قادة أوروبيين آخرين ضروب من السلوك يترفع الإنسان العادي عنها، منها غرقهم في الفساد والجنس والتبذير وألاعيب مخالفة للقانون . وقد اشتهر في التاريخ الحديث رجال تولوا مسؤوليات قيادية تبين أنهم كانوا عاجزين عن تركيز أذهانهم على أية قضية أكثر من ثوان قليلة، ولم يتمكنوا من حفظ أسماء ضيوفهم من رؤساء أجانب، أو معرفة مواقع وأسماء مهمة داخل بلدانهم، بل إن أحدهم (ريغان) كان يقضي كثيراً من وقته مع قارئات الكف والمنجمات، بينما عانى جورج بوش الابن خلال طفولته وشبابه عجزاً عقلياً جعل مدرسته تطالب أبويه بمعالجته، وتوبخهما في رسائل رسمية لأنهما لم يفعلا شيئاً، مع أنه غرق في الخمر والمخدرات وداوم عليهما إلى أن أنقذه منهما قس متعصب أخضعه لهوس مذهبي يقول بقرب قدوم المخلص ونهاية العالم، جعله يمارس سياسات خطيرة على الإنسانية أملاها إيمان زيّن له أنه أداة بيد الله يحكم من خلالها العالم، فلا بد له من ممارسة سلطته بطريقة تقرب يوم القيامة .
يخلط قادة غربيون بين مصالح بلدانهم القومية ومصالح الإنسانية العليا، بينما يطالبون غيرهم بالتخلي عن مصالحه القومية بحجة أن الواقع تخطاها فليست صالحة بعد لتوجيه سياسات الدول وخدمة السلام . ويجنح هؤلاء القادة إلى تبني سياسات مناوئة للنظام الديموقراطي المعتمد في بلدانهم، فتراهم يدلون بتصريحات عرقية أو عنصرية عن الشعوب الأخرى وحضاراتها، ويؤمنون أن العالم يشهد صراعات وحروب حضارات، وأن لحضارتهم الغربية حق الدفاع عن نفسها بجميع الوسائل، عسكرية كانت أم اقتصادية أم ثقافية أم أيديولوجية . وبما أن دفاع الحضارة الغربية عن نفسها يجب أن يدور خارج أراضيها، فإنه يحق للغرب نقل الحرب إلى البلدان الأخرى وخوضها بالشدة الضرورية لكسبها، وإن أدى ذلك إلى تدمير ميراث حضاري/ إنساني ثمين، ومحو ذاكرة ووعي شعوب وأمم كاملة . تؤكد مواقف وتصريحات كثيرة هذا المنحى لدى قيادات غربية عديدة كتصريح برلسكوني حول دونية الحضارة العربية، وتفوهات آخرين حول الإسلام ونزعاته الإرهابية المتأصلة في دعوته . باقتران هذا الجنوح الأيديولوجي مع الجهل بأحوال وحاجات العالم، تكتسب العلاقات الدولية طابعاً متفجراً يغلق دروب التواصل السلمي والحضاري بين الدول والشعوب، ويجعل علاقاتها ميدان أحكام مسبقة وتمييزاً عرقياً ودينياً، يستحيل أكثر فأكثر إبقاؤها ميدان سلام وتعايش إنساني .
أطلقت نهاية الصراع الدولي بين الرأسمالية والاشتراكية سلسلة أزمات وحروب كان يقال إنها ستكون مستحيلة الوقوع، إن انتصرت الرأسمالية . من أسباب هذا الانفلات العالمي الأعمى للعنف سعي دولة واحدة إلى فرض سيطرتها على بقية العالم . ومنها أيضا امتلاء النظرة إلى الذات القومية ورسالتها بمضمون مذهبي/ عنصري يقصي الآخر والمختلف . ومنها زعم يملي جوانب مهمة من السياسات الغربية يدعي أن مصالح البلدان المتقدمة في الغرب هي عينها مصالح العالم، فلا سبيل إلى وجود مصلحة أخرى خارجها، ولا قبول بأي شيء غيرها . في هذه الأجواء، يبدو العالم وكأنه انقسم إلى كتلتين، تقبل إحداهما أوضاعه كما هي وتريد المحافظة عليها، وترفضها الأخرى وتطالب بحصتها من الحرية والحياة . وتبدو معركة العدالة والحرية بين هاتين الكتلتين مرشحة لمزيد من التصعيد والعنف، بسبب إصرار الكتلة الأولى على تعميق حال التفاوت بين أجزاء ومناطق وشعوب العالم، والمحافظة بأي ثمن على سيطرتها وهيمنتها .
هناك أزمة قيادة تهز استقرار وأمن العالم، تتجلى في تمركز الغرب على ذاته، وعمله على إلحاق - وليس التحاق - العالم به . بالمقابل، يسود في البلدان غير المتقدمة نمط من السياسة يبدو فاشلاً وعاجزاً عن إخراجنا من مأزق تاريخي فرضه تطور المتقدمين علينا منذ نيف وثلاثة قرون . هذه الأزمة المزدوجة، تدفع العالم إلى تدهور متزايد السرعة يشمل معظم مناطقه، عدا تلك التي عرفت كيف تخرج من المعادلة التي فرضتها علاقات الغرب مع بقية العالم، وفي مقدمها الصين: البلد الذي ينفرد بقيادة تاريخية حقاً، ويستخدم قدراته وقدرات غيره، في الغرب كما في غيره، لدفع نموه نحو آفاق جديدة، فلا غرابة أنه أخذ يحكم قبضته على مفاصل مهمة في الوضع الدولي .
ما الذي ينقص قياداتنا نحن العرب، ويحول بينها وبين انتهاج الطريق الصيني، بعد أن ساقتنا ثقتها بقيادات الغرب إلى ما نحن فيه من ضعف وبؤس؟
التعليقات