عبد الحميد الأنصاري

الآخر، هو المغاير للذات، المختلف عنا لسبب من الأسباب العديدة، سواء أكان هذا المختلف، داخلياً أم خارجياً، فقد يكون فرداً من عائلتنا، وقد يكون جاراً لنا أو زميلاً في العمل أو شريكاً في الوطن، إن شرعية الرأي الآخر، إنما تستمد وفي الأساس من شرعية الاختلاف، وأيضاً من شرعية الرأي ذاته، لأن quot;الآخرquot; كما يقول علي حرب: يقبع في صميم quot;الأناquot; ولأن quot;الأناquot; تنبني أصلاً بالعلاقة مع العالم، والوعي بالذات عبر الآخر، والشعور بالهوية إنما يبرز في مواجهة quot;الغيرquot;، فلا شرعية للرأي نفسه ولا وجود له إذا صادرنا شرعية الرأي الآخر ووجوده، كما أنه لا إمكانية لأي حوار قبل الاعتراف بالآخر وبحقه في الحياة وفي التميز والاختلاف.

يقرر الفقهاء quot;الأصل في الإنسان الحريةquot;، بمعنى أن الحرية ليست من الحقوق المكتسبة حتى يعطيها إنسان لآخر أو يسلبها منه، فالإنسان حر بأصل خلقته، والحرية ليست مجرد quot;حقquot; في المنظور الإسلامي بل تتحول إلى تكليف ووجوب، يُحاسب الإنسان إذا فرّط أو تقاعس في أدائهما. والحرية لا تتجزأ، فهي عامة وشاملة لكل البشر ولكافة الحريات، وقد اعترف الإسلام بالحرية الدينية للآخرين سواء في المعتقد أو في ممارسة الشعائر وإن خالفت شعائر الإسلام انطلاقاً من قوله تعالى: quot;فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرquot;، وهل يبقى للحرية من معنى إذا منعنا أصحاب الديانات الأخرى من ممارستها عملياً؟! إن سنة الله قائمة على quot;التعدديةquot; لا quot;الأحاديةquot;، وأي إلغاء للرأي الآخر أو مصادرته أو قمعه، يُعد إلغاءً للتطور وتجميداً للحياة، وأية محاولة لكبته، تؤدي إلى مزيد من المشاكل والتعقيدات، إن من حق الآخر تماماً (كما من حق الذات) التعبير عن رأيه في كافة الشؤون الفكرية والعقدية والسياسية والاقتصادية... فلا مسوّغ لإلغاء الرأي الآخر. إن الاعتراف بالآخر وجوداً ورأياً، هو قوام الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي في مجتمعاتنا، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم حضارياً بدون تكريس quot;التعدديةquot; وحمايتها، فالرأي الآخر، ضرورة تفرضها الطبيعة البشرية والحياتية والكونية، وهو تعبير عن واقعية الاختلاف في حياة البشر. نجد مصداق ذلك في تعدد الآراء الاجتهادية في الفقه والتشريع، وقد عبر الفقهاء عن هذا الاختلاف بكونه quot;رحمةquot; إذ لو كان رأياً واحداً، لضاق به الناس، ووقعوا في quot;الحرجquot; الذي حرص القرآن الكريم في العديد من آياته على رفعه، وعدم تعريض الأمة لأي شكل من أشكال العنت والمشقة.
وأهمية الرأي الآخر في المجال السياسي بصفة خاصة أنه يُرشد القرار السياسي، ويضمن التوافق المجتمعي، ويشكل quot;صِمامquot; أمان ضد الأخطار الداخلية والخارجية، ويجنّب المجتمعات والدول الكوارث والهزائم... وذلك بما يتيحه من مناخ للحرية والتعددية يفرز السلام الاجتماعي في الداخل وينتج علاقة صحية ناضجة بدول العالم المتقدمة. أما في المجال التنموي فتبرز أهمية الرأي الآخر، كونه يساعد على الوصول إلى الخطط التنموية المناسبة والملائمة لظروف المجتمع، وغياب الرأي الآخر هو العامل الأبرز في إخفاق خطط التنمية العربية في تحقيق أهدافها رغم الجهود المبذولة والموارد الكبيرة.

أما في مجال الأمن المجتمعي والاستقرار السياسي، فلا يخفى أن إفساح المجال أمام الرأي الآخر للظهور والانتشار، يشكل المتنفس الصحي العلني للجميع، إذ أن المناخ التعددي يستطيع احتواء كافة نوازع التمرد والرفض والمعارضة، احتواء ً سلمياً ديمقراطياً يجنب الدول الهزات العنيفة والانقلابات الدموية. فالتعددية الفكرية والثقافية ثروة حضارية، إذ هي إفراز وتفاعلات لعقول كثيرة ومتنوعة قادرة على العطاء والتنوع وأي توجه للحجْر على الرأي الآخر، يعد كارثة فكرية لأنه يسبب عقماً وجموداً فكرياً يهمش المجتمع ويعزله عن تيار الحياة المتدفق، لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو الصواب المطلق فيما يتعلق بالأفكار والأحكام والآراء المتعلقة بمجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا يوجد من يستطيع الادعاء بأن رأيه هو الأخير في قضية ما. يقول الله تعالى: quot;وما أوتيتم من العلم إلا قليلاًquot;. الحلول التي يطرحها الإنسان نسبية ومتغيرة ومحكومة بقدرته العقلية وبالإطار الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه، والحقيقة الكاملة عند الله، ومعنى ذلك أن الاعتراف بشرعية الرأي الآخر هو سبيلنا الوحيد للوصول إلى جزء من الحقيقة الغائبة.

ورغم التطورات السياسية التي شهدتها الساحة العربية نحو قبول التعددية، فإنه على مستوى الممارسات لا يزال الرأي الآخر في محنة؛ يعاني تقييداً وتضييقاً يصل إلى المصادرة والتجريم في بعض الحالات. وفضلاً عن اتهام الرأي الآخر بالتكفير هناك من يتهمه بالعمالة وخدمة الأعداء وتنفيذ مخططات تغريب المجتمع تحت شعارات quot;الحداثةquot; وquot;العقلانيةquot; وquot;التعدديةquot;. ولا يكاد داعية الإصلاح السياسي يخلص من اتهامه في وطنيته، أما داعية الإصلاح الاجتماعي فمتهم بتغريب المرأة المسلمة، والذين يطالبون بإصلاح الخطاب الديني إنما يخضعون لإملاءات أميركية تحت شعار محاربة الإرهاب! أما دعاة التسامح والسلام فهم دعاة استسلام وانهزام واستباحة! مأساوية الحالة العربية أن دعاة التغيير والإصلاح لا يكادون يأمنون على أنفسهم وأولادهم، لا من السلطات الحاكمة بل من الصغار المغرر بهم من قبل منابر ومواقع وفتاوى محرضة.

محنة الرأي الآخر، مزمنة وغائرة الجذور في الأرض العربية، تمتد إلى صراع السُّنة والمعتزلة في القرن الثاني الهجري حول quot;الفرقة الناجيةquot;. لقد فرض مذهب الجمهور نفسه على الساحة الفقهية وهمّش الرأي الآخر ولم يسلم أصحابه من تهم التكفير والتفسيق والزندقة على امتداد التاريخ الإسلامي وحتى اليوم. وللإنصاف التاريخي فإن quot;الرأي الآخرquot; -أيضاً- لم يكن بريئاً دائماً من لعبة التكفير والتفسيق؛ فالخوارج أقلية مثلت الرأي الآخر لكنها كفَّرت الأكثرية واستباحت دماءها، ونجد امتداداتها في عصرنا ممثلة في خطاب الجماعات المتشددة المكفرة، ونجدها -أيضاً- في الخطاب التخويني لبعض الميليشيات الدينية كـquot;حزب اللهquot; في لبنان وquot;حماسquot; في غزة وquot;شباب المجاهدينquot; في الصومال وquot;طالبانquot; في أفغانستان وباكستان... فالرأي الآخر -المهمَّش- ما أن يتمكن ويقوى حتى يمارس نفس الدور الذي كان يشكو منه، وهذا يدلنا بوضوح على أن العلة الحقيقية كامنة في أنه حتى الآن، لا توجد قناعة مجتمعية حقيقية بالثقافة التعددية.