المستشار شفيق إمام


في مقال الأحد الماضي 'منظومة العدل في شهر الصيام'، نقلت عن الرسول قوله عليه الصلاة والسلام 'دعوة المظلوم -وإن كان كافراً- ليس دونها حجاب'.

وأستعيد في هذا المقال قول الإمام ابن تيمية: 'إن الله يقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة'.

والإمام ابن تيمية غني عن أي تعريف، فهو أحد الأئمة والفقهاء الأصوليين الذي عرف بشدته في تفسير أحكام القرآن والسنة، وتعصبه لكل ما هو مسلم، ومن أفكاره تستمد الجماعات الإسلامية دعوتها في الخلافة الإسلامية والتكفير، ومن ثم فإن قسوته على الدول الإسلامية الظالمة وانحيازه للدول العادلة ولو كانت كافرة، هو قول فيه من النقد الذاتي والإنصاف، ما يجعله قاعدة تحكم علاقتنا بغيرنا من دول الغرب.

وهو قول يطرح سؤالين مهمين:

السؤال الأول: كيف يقيم الله الدولة الكافرة؟

السؤال الثاني: كيف تكون الدولة المسلمة دولة ظالمة؟

كيف يقيم الله دولة كافرة؟

يقيمها إذا كانت عادلة وهو العليم الخبير، وله كل ما في السموات والأرض، وهي تقام على دعامتين من مبادئ الإسلام، أولاهما العدل، فالعدل اسم من أسماء الحق تبارك وتعالى، تقدست بالجلال والكمال أسماؤه، يدير به رب الكون نظامه، وهو رسالة السماء إلى الأرض، أساس الحكم الصالح، وبالعدل وحده تسمو المبادئ والقيم وتصان حقوق الفرد والجماعة.

وثانيهما الحرية الدينية التي كفلها الإسلام في قوله تعالى 'وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر'، وهي صريحة في ترك الإيمان والكفر لمشيئة الإنسان بعد تبيين الحق له.

كيف تكون الدولة المسلمة دولة كافرة؟

وإقامة العدل هي جوهر الإسلام ومن صفات الإمام العادل، ما وصفته به رسالة الحسن البصري إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه صلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف كالأب الحفي على أولاده، والأم الشفيقة البرة الرحيمة بأولادها، كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده.

والواقع أن الإجابة عن هذا السؤال تبدو سهلة بسيطة إذا أمعنا في قوله تعالى: 'قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ'.

وخطاب الآية الكريمة يصدق على الدول التي تنص دساتيرها على أن دين الدولة الإسلام، أو التي يدين كل رعاياها أو أغلبيتهم بالإسلام، ولكن لم يدخل الإيمان قلوبهم أو قلوب حكامهم.

فالدول الإسلامية الممتدة من المغرب إلى إندونيسيا ومن كازاخستان إلى السنغال، قامت فيها دول إسلامية خلال فترة زمنية تزيد على أربعة عشر قرناً، حملت شعار الإسلام ورايته، لم يظفر التاريخ من بينها بدولة مسلمة عادلة إلا خلال الثلاثين عاماً التالية لفترة النبوة، وهي فترة الخلافة الراشدة، وتسعة وعشرين شهراً قضاها عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أميراً للمؤمنين، الذي قال قولته الصادقة الرائعة عن خطايا الحجاج وزير الدولة الأموية 'لو جاءت كل أمة بخطاياها يوم القيامة، وجئنا نحن بالحجاج وحدة لرجحناها جميعاً'.

ولكن الحجاج لم يكن فرداً، بل كان نظاماً استمر قروناً طويلة بعد موت الحجاج، يقتل ويعذب ويشرد وينتهك الحرمات، رافعاً راية الظلم باسم الإسلام، ثم باسم القانون، بعد سقوط الدولة العثمانية.

خير أمة أخرجت للناس

إن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تزهو بأنها خير أمة أخرجت للناس إلا أذا كانت أمة عادلة، العدل المطلق الذي يتناول جميع المجالات التي تتصل بالحكم وبحياة الجماعة والفرد، وقد قال سبحانه وتعالى 'وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل'.

أمة مسلمة تكفل حرية العقيدة، وهي أعلى مراتب الحريات جميعاً، إذعاناً لقوله تعالى 'لا إكراه في الدين'.

وتضع عن الناس 'إصرهم والأغلال التي كانت عليهم'... 'من سورة الأعراف'. وتؤمن بأن الحرية هي فطرة فطر الله الناس عليها، في قوله تعالى 'ولقد كرمنا بني آدم'.

والدولة المسلمة العادلة في تكريمها لبني آدم، تصون دماء الإنسان وحرماته وحرياته، ولا تنتهك حقاً من حقوقه، وتدفع عنه كل عدوان على هذه الحقوق، دولة تصون حرمة المسكن للفرد من أن يدخله زوار الفجر من رجال مباحثها، وقد قال تعالى 'لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسو وتسلموا على أهلها'.

ابن تيمية وحوار الحضارات

لقد أحسن الإمام الكبير الاستقصاء، واستنبط فوفَّق إلى الصواب، ففتح باباً وقف العلماء والفقهاء والمسلمون أمامه يدنون منه ثم يرتدون عنه، لأن الأمة الإسلامية خير أمه أخرجت للناس، فهو يفتح الباب على مصراعيه، منذ القرن السادس الهجري، للحوار مع الآخر، مع دول عادلة وحضارات عادلة، وإن خالفتنا في الدين والرؤية، طالما يجمعنا وإياها العدل. وقد قال الإمام محمد عبده عندما ذهب إلى بريطانيا وعاد منها: 'لقد رأيت هناك إسلاماً ولم أرَ مسلمين وفي مصر أرى مسلمين ولا أرى إسلاماً'.

ولم يكن موقف ابن تيميه إلا نابعاً من الحضارة الإسلامية التي دعت إلى الحوار مع الآخر والتعاون معه بعكس الحضارة الغربية التي تدعو إلى الصراع مع الإسلام، في البحث الذي كتبه صمويل هينتيغتون الأستاذ في جامعة هارفارد تحت اسم 'صراع الحضارات'.

كما طالب المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي عمل مستشاراً في وزارة الخارجية في كتاب 'نهاية التاريخ' في أكتوبر 1997 بأن تكتب الحضارة الإسلامية شهادة وفاتها.

ويصف مايكل سالان من الجامعة الأميركية في واشنطن في مجلة 'العالم الثالث-المجتمع' في يناير 1998 العلاقات الغربية بالإسلام بأنها ستكون علاقات عدائية استئصالية، سواء مع الإسلام المتطرف أو المعتدل، لأن الفارق بينهما في رأيه فارق في التكتيك لا أكثر.

وعندما انتهت الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، بررت مارغريت تاتشر رئيس وزراء بريطانيا وقتئذ بقاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) بوجود خطر أكبر من الشيوعية هو الإسلام الذي يهدد حضارة العرب. وقاد جورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 'حرباً صليبية' على الإسلام بعد أن ربطه بسبب هذه الأحداث بالإرهاب، وطالب بتعديل الإسلام الذي تحض تعاليمه -حسبما يرى- على كراهية الآخر!