سعيد حارب
المراقب لدور بعض النخب السياسية العربية يرى أنها تمضي يوما بعد يوم في ضياع الأوطان وتفتيتها وترسيخ أسباب التفرقة والتقسيم، إذ يبدو أن بقاء هذه النخب في مواقعها السياسية أهم من الوطن وحقوقه أو تماسكه سيادته، ولعل استعراض بعض النماذج من هذه النخب يعطينا صورة واضحة عما آلت إليه بعض الدول العربية، والنموذج العراقي يعد أبرز هذه النماذج، فالمجموعة التي جاءت إلى السلطة بعد سقوط النظام السابق وبشرت بالديمقراطية القادمة على laquo;بساط الريح الأميركيraquo;، لم تحقق شيئا مما كانت تعد به قبل تسلمها السلطة، بل كانت وبالا على الشعب العراقي، إذ قسمت الوطن وفقا لمصالحها باسم الطائفية أو العرقية أو المناطقية أو العشائرية، وبعد أن كان العراق موحدا أصبحنا نجد laquo;عراقاتraquo; متعددة، فهناك العراق السني والعراق الشيعي والعراق الكردي وغيرها من التقسيمات التي لم نكن نسمعها قبل ذلك، ولم تكتف هذه النخبة بهذه laquo;الجنايةraquo; على الوطن، بل قننت تلك التقسيمات من خلال الدستور أو القوانين فيما سمي بالنظام الفيدرالي، وامتدت هذه التقسيمات إلى كل موقع في مؤسسات الدولة، وارتبطت مصالح النخبة السياسية بمواقعها، فالمنصب هو الضمان لـ laquo;النهبraquo; أولا ولعدم المساءلة بعد ذلك، حتى ضرب الفساد بأطنابه في مؤسسات الدولة، ولا أدل على ذلك من تقرير الشفافية الدولية الذي يضع العراق في قائمة الدول الأكثر فسادا، شأنها في ذلك شأن الصومال، ومما زاد من laquo;نكبةraquo; النخبة أنها أعطت laquo;أروعraquo; الأمثلة في الأنانية السياسية، فالعراق منذ أكثر من خمسة أشهر وهو يعيش حالة شلل سياسي بسبب الصراع الدائر بين زعماء الأحزاب السياسية على منصب رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، حيث يتخندق كل طرف أمام مطالبه ويتمسك بـ laquo;حقهraquo; في المنصب، حتى ولو كان في ذلك تدمير للوطن وقتل لأبنائه!! فدماء العراقيين تسيل كل يوم على أرصفة الشوارع، بينما يتصارع قادتهم على اقتسام العراق وكأنه غنيمة، ولعل من الطريف أو المحزن أن العراق أصبح رهينة بيد هؤلاء الساسة الذين أسهموا في تقسيمه، إذ إن آخر laquo;الصراعاتraquo; السياسية التي توصل إليها قادة أحزابه أن laquo;المناصبraquo; يجب أن تقسم laquo;طائفياraquo;، فقد صرح نوري المالكي -رئيس الوزراء المنتهية ولايته- بأن تفاوض قائمته المسماة laquo;دولة القانونraquo; مع القائمة laquo;العراقيةraquo; بزعامة إياد علاوي laquo;تم على أساس أن القائمة العراقية تمثل السنة!! وكان مساعده laquo;الشابندرraquo; قد صرح في الشهر الماضي أن منصب رئيس الوزراء يجب أن يبقى للشيعة، وحين قيل له إن إياد علاوي شيعي، قال: لكن الذين انتخبوه من السنة!! أي أنه لا يكفي أن يكون صاحب المنصب محققا للشروط laquo;المذهبيةraquo;، بل لا بد أن يتحقق الشرط في الناخبين!! ولا يكفي أن يكونوا مواطنين عراقيين، ولا نعلم إن كان مطلوبا من العراقيين مستقبلا أن يحملوا شهادة laquo;مذهبةraquo; أو عرقية حتى يستطيعوا أن ينجزوا معاملاتهم اليومية!!
لقد أدى هذا التناحر بين النخبة السياسية إلى أن أصبح العراق نهبا لهذه التقسيمات، رغم أن كل الذين دخلوا الانتخابات كانوا يتحدثون عن العراق الموحد، وعن نبذ العنصرية أو الطائفية أو العرقية، وإذ بهم يكرسون هذا التقسيم بعد أن حققوا أهدافهم في الانتخابات، ولم تكتف هذه النخبة بزرع التقسيمات الطائفية والعرقية، بل أصبحت رهينة للقوى التي قامت على أسس طائفية أو عرقية، وكنت قد أشرت في مقال لي بتاريخ 18 مارس من هذا العام بعنوان laquo;العراق هل يخرج من النفق أم يظل فيه؟raquo; إلى أن أيا من الكتلتين الكبيرتين في الانتخابات العراقية سيكون رهينة لدى القوى الطائفية أو العرقية حتى يستطيع أن يكون كتلة كبيرة تسمح له بتولي السلطة، وفي هذه الحالة ستفرض الكتل الصغرى شروطها على الكتل الكبيرة، وهذا ما حدث فعلا إذ إن التحالف الكردي في الشمال والقوى الأخرى كالتيار الصدري والمجلس الإسلامي الأعلى أصبحت تفرض شروطها على من يطلب ودها، وفي ذلك تنازل عن بعض مصالح العراق وتماسكه ووحدته، وبخاصة فيما يتعلق بالسلطة الممنوحة للأكراد، أو فيما يتعلق بثروة العراق كالنفط وغيره، ما يعني تقسيم المصالح على هذه النخبة، لكن أخطر ما آلت إليه أمور العراق هو laquo;ارتهانraquo; العراق لدى القوى الخارجية الإقليمية منها والدولية، وإذا كانت أميركا حاضرة على المشهد العراقي بصورة واضحة، بيد أنها كما يبدو لم تعد اللاعب الوحيد في الشأن السياسي العراقي، ولم تعد كلمتها هي الفصل رغم هيمنتها على الجانب العسكري، وليس بجديد أن بعض دول الإقليم -وبخاصة إيران- تمارس دورا كبيرا من خلال القوى السياسية العراقية التي ارتبطت بالخارج بصورة كبيرة، ما أصبح معه الشأن العراقي الداخلي شأنا إقليما ودوليا أكثر منه شأنا عراقيا صرفا، رغم تصريحات الساسة العراقيين باستقلال قرارهم عن أي مؤثرات.
إن النخبة السياسية العراقية تمثل نموذجا لكثير من النخب العربية التي تقدم مصالحها الذاتية أو الحزبية أو الطائفية أو العرقية على حساب الوطن، وكلها تزعم خدمة الوطن.. فما أكثر الجرائم التي ترتكب باسمك أيها الوطن!!
التعليقات