احمد المرشد

من الواضح ان نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته وضع نفسه وكتلته ( دولة القانون) في حرج بالغ وشديد الحساسية سياسيا على الأقل، وذلك بسبب مواقفه واتجاهاته السياسية التي لا تتوقف عند أي منطق يتقبله الآخرون او المنافسون له. فهو دائم الإعلان عن تمسكه بأن يكون رئيس الحكومة في ولايتها الجديدة، ويتمادى بقوله :laquo; لا مرشح أفضل منيraquo;.. ويزيد بأنه لن يتخلى عن مسئولياته ومنها بالطبع منصب رئيس الوزراء.
فمثل هذه المواقف وآخرها وصفه كتلة ( العراقية) بزعامة منافسه إياد علاوي بأنها عبارة عن تكتل سني ، مما استدعى كتلة العراقية الحاصلة على المركز الأول في الأصوات -91 مقعدا ndash; التأكيد على انها لن تتنازل عن حقها في تولي منصب رئاسة الوزراء، وان هذا الشرط لا تراجع عنه لانه يمثل إرادة الناخبين العراقيين ولا يجوز التنازل عنه.
وأسفرت مواقف المالكي ايضا عن رفضها من قبل حليفه السابق ( الائتلاف الوطني العراقي) الذي طالب رئيس الوزراء المنتهية ولايته بان يكون ضمن المعارضة ،وانه على المالكي ان يتنازل عن سقف مطالبه ليرضي كافة الأطياف السياسية ولا خيار له سوى ذلك. ولم يتوقف رفض العراقيين للمالكي على كتلتي العراقية والائتلاف الوطني، بل امتد الى التحالف الكردستاني الذي خرجت منه تصريحات تشير ضمنا الى عدم التجاوب مع مطالب المالكي.
بيد ان كل ما سبق لا يعني توقف حركة المفاوضات بين الكتل المختلفة لتشكيل الحكومة المرتقبة.. ولكن ظهرت في الافق بوادر جعلت العراقيين ينظرون للمالكي على انه رجل إيران وأمريكا في وقت واحد.
وقد يفسر هذا تمسك واشنطن أحيانا بالمالكي وعدم تكتم رغبتها في استمراره كرئيس للوزراء . فالولايات المتحدة رغم نفيها ذلك، تقدم للمالكي المكافأة على هداياه الثمينة للأمريكيين ، مثل التنازلات المفرطة والمجانية على حساب العراق في اتفاقية ( صوفا) التي وقعها المالكي عام 2008 دون عرضها في استفتاء شعبي. ولا ينسى العراقيون ان هذه الاتفاقية صادرت السيادة العراقية، وان المالكي لم يغب عنه وقتها ان يراعي المصالح الإيرانية في هذه الاتفاقية التي تنتهي عام 2011 مع انسحاب آخر جندي أمريكي من العراق.
مواقف المالكي السياسية والمتهاونة في حق بلاده جعلت أنصاره قبل خصومه يتهمونه بانه يجيد هضم الإملاءات الخارجية، ولا ينسى هؤلاء فكرة شن انقلاب عسكري والاعداد له جيدا ليتجاوز نتائج الانتخابات التي جاءت بتكتله ثانيا بعد( العراقية) بـ89 مقعدا في البرلمان. هذه الفكرة ndash; اي الانقلاب ndash; لم تكن مجرد فكرة في خيال المالكي، فهو اعد لها كما اسلفنا بصورة محكمة، تحديدا حينما نقل ضباط وقادة أمنيين من قوات بغداد ولواء المثنى، وإحلالهم بضباط وقادة موالين له بهدف التحضير لانقلاب عسكري اذا نجح منافسيه في إقصائه عن تولي رئاسة الوزراء في ولاية ثانية له.
ولا يهمنا هنا ما يردده الأمريكيون، من ان حدوث مثل هذا الانقلاب الدستوري هو أمر مستحيل، وهذا ما ذكره كريستوفر هيل السفير الأمريكي السابق في العراق في معرض رده عن فكرة الانقلاب. فتبرير هيل لو فكرنا فيه قليلا نراه لا يخدم العراق كبلد وكشعب، فالسفير الأمريكي السابق في بغداد أمعن في تقسيم العراق ما بين سنة وشيعة واكراد، وانه يتعرض لحرب سياسية كي تحصل كل مجموعة على اكبر قدر من المزايا في الحكومة الجديدة.. ولكن الأمل الذي يبعثه هيل في نفوس العراقيين هو استبعاده ان يكون العراق كبلد قد انجب الشخص الذي يستطيع تقسيم العراق في الوقت الراهن. ناهيك عن دفاع هيل عن فكرة عدم قدرة المالكي او غيره القيام بانقلاب دستوري، وان تكون بلاده طرحت افكارا تمهد لتشكيل الحكومة العراقية التي تتعرض لمطبات جمة تعرقل عملية التوصل الى اتفاق بين الكتل السياسية.
وسرعان ما يناقض هيل نفسه عندما يحدد تشكيل الحكومة بين طرفين هما كتلتا العراقية ودولة القانون، مع توجيه الدعوة لإيران للامتناع عن السعي للتأثير على تشكيل هذه الحكومة، لانها - اي طهران ndash; لا تنظر سوى لمصالحها فقط.
وقد نتوقف قليلا عند تصريحات هيل باعتباره سفيرا سابقا في العراق وشاهد عيان على الوضع السياسي والأمني هناك.. فهو مثلا عندما يقول ان الحل سيكون عراقيا وليس من اي مكان اخر، فهو لم يقصد ان واشنطن هي التي ستتدخل، بل يشير بأصابعه الى تدخلات دول الجوار رغم انه لم يحددها بالاسم. ولكنه يقصد السعودية وسوريا وتركيا وإيران، وانه على الجميع التوقف عن التدخل في الشأن العراقي. وربما كان هيل يقصد الرد على فكرة عقد مؤتمر سياسي تستضيفه دمشق لوضع حد للازمة الدستورية العراقية، وهو ما عرف باسم laquo; طائف جديد ولكن للعراقraquo;.
واذا كان كلام هيل الذي ردده في أكثر من موقع وندوة، قد انتهى، فإن تأثيره لم ينته بعد. لان العراقيين او اغلبهم على الأقل يعتقدون ان الحكومة المرتقبة لن تتشكل سوى بتدخل عربي وتركي وإيراني، اي بعكس الدعوة الأمريكية لهؤلاء بترك العراق في حاله. وقد يكون هذا التدخل الإقليمي رغبة من دول الجوار في وقف او إجهاض المشاريع الأمريكية، وكلها تهدف الى تعطيل الدستور ومنح قائمة laquo; دولة القانونraquo; فرصة تشكيل الحكومة وحجب هذه الفرصة عن قائمة laquo; العراقيةraquo; بعدما فازت بالمركز الأول في الانتخابات الأخيرة. هذه المشاريع الأمريكية تسعى في المقام الاول الى تغييب قائمة إياد علاوي عن المشهد السياسي، والحجة الأمريكية في هذا الموقف المؤيد للمالكي، هو ذريعة منع حدوث فراغ دستوري وسياسي وامني يعرقل عملية الانسحاب الأمريكي من العراق.
وقد يطرح كل ما سبق تساؤل مهم وهو :laquo; لماذا لم تتحرك المحكمة الاتحادية العليا لتبادر لتطبيق مواد الدستور؟.. خاصة وان المحكمة بإمكانها طمأنة الشعب العراقي بأن لديهم دستورا هو القانون الأسمى والأعلى في البلد وهو المؤسسة الوحيدة القادرة على تطبيقه لحل الأزمة السياسية وإيجاد مخرج لها .. علما إنه لا توجد مادة في الدستور تمنح رؤساء الكتل الفائزة حق خلق أزمة سياسية وتعريض مصالح الشعب والوطن إلى الخطر من خلال طول فترة صراعهم ما يعرض العراق الى مخاطر كبيرة.
ولعل من اخطر هذه العثرات، ما يشهده العراق حاليا من تدهور امني، وازدياد وتيرة أعمال العنف والهجمات الإرهابية الدموية، مما أسفر عن اعداد كبيرة من القتلى والتهديد بموجة عنف طائفية أخرى مع استعداد القوات الأمريكية للخروج من البلاد. وكانت آخر حصيلة هذه الهجمات مقتل أكثر من 50 جنديا ومدنيا عراقيا عندما فجر انتحاري نفسه قبل أسبوعين في بغداد وسط حشد أمام مركز تجنيد للجيش العراقي، الذي يفترض ان يتولى المهام الأمنية بعد رحيل القوات الأمريكية من العراق.
والمؤكد ان كل هذه المحاولات الإرهابية تسبب إرباكا للعملية السياسية، لان ارتفاع معدل الهجمات الإرهابية في العراق يعود سبب رئيسي فيها الى أن المسلحين يحاولون استغلال التوتر السياسي، الذي أعقب الانتخابات التشريعية لتنفيذ اعتداءاتهم الهادفة الى زيادة حدة الصراع الموجود بين القوى السياسية الفائزة في الانتخابات وشل عمل الحكومة المنتهية ولايتها.
وختاما.. ليس أمامنا سوى التأكيد على ما ذكره الائتلاف الوطني العراقي بأن المالكي يلعب في الوقت الضائع، وقد نشاركه هذا التأكيد، اللهم سوى جدت أمور سياسية لا يتوقعها العقل السياسي في العراق.