دهام حسن


عندما تطرح مسألة الديمقراطية على بساط الجدل في المداولات السياسية بين الفرقاء والمشارب السياسية المختلفة، لا شك أننا سوف نصطدم بإشكالات عديدة، تتمثل برؤى مختلفة، بحيث إن موقف أي فريق يتأسس وفقا لموقعه السياسي أو الأيديولوجي وحتى الاجتماعي والاقتصادي، بالمقابل فقد يتناول بعض رجالات الفكر المسألة ndash;ربماndash; بمنطق معرفي وبالتالي بمعالجة موضوعية، ومن غير ريب سوف تختلف النظرة والقراءة للديمقراطية بين مجتمع تقليدي كالمجتمعات العربية، ومجتمع منتج للحداثة، كالمجتمع الغربي، فالديمقراطية هي نتاج وحصيلة المجتمع في درجة من تطوّره، وهي تأخذ شكلاً يتناسب مع هذه الدرجة من التطور، وهي ليست كيانا خاصا منفصلا عن جسم الدولة ولا عن كيان المجتمع.
إن الديمقراطية بغض النظر عن أصلها اليوناني، هي اليوم بصيغتها المتبلورة جاءت مع الحداثة، وهي عنت فيما عنته التمثيل السياسي في تسيير شؤون الدولة، ومن الطبيعي أن تقضي الحالة بالتعددية السياسية، وكان الحامل الاجتماعي للديمقراطية، هو الطبقة البرجوازية، فقد كانت غداة الاستقلال لم تزل تتمتع بتأثير واضح في حركة المجتمع، رغم أنها كانت في بداية تحوّلها وتكوّنها، لكن هذه الفاعلية أو التأثير جاء وأْده مبكراً من خلال الحركات الراديكالية من قوميين ويساريين الذين قادوا الثورات الوطنية حتى تم التحرير، ومن ثمّ قاموا بانقلابات عسكرية فيما بينهم، وسعوا لإلغاء دور البرجوازية في حلبة الصراع الدائر واتهامها بالعمل كمطية للمستعمر الأجنبي في سياق نضالهم (الاشتراكي) الموهوم، وأيضا من خلال مناداتهم بشعار الوحدة العربية الشعار الوجداني الأثير الذي استحوذ على أفئدة ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، وما زال إلى اليوم من يمشي في مناكب هذا الشعار العاطفي لكن في ظروف جديدة ووعي جديد لحقيقة المناداة والمتاجرة بشعارات كهذه، وفي المحصلة كانت النتيجة أو الغاية هي القضاء على حيوية البرجوازية، وإلغاء دورها، وبالتالي تغييب الديمقراطية، والحيلولة دون قيم الحداثة، وكل هذا بالنتيجة يمهد الطريق أمام القوى الأصولية الإسلامية، وبالتالي خلق هوّة بين المجتمع والدولة وتحكم الدولة بمصير الشعب، دولة من فريق صغير مستبد طاغٍ يتفرد بالسلطة، دولة ديكتاتورية بما للكلمة من معنى، وبالمقابل كنت تجد المجتمع المدني في حالة ضعف غير متماسك وفراغ سياسي وفي حال تبعية لرموز السلطة أكثر من تمتعها بالاستقلالية مع هشاشة القوى السياسية داخل المجتمع حيث لا تتمتع بفاعلية تذكر، في حين أن غرامشي كان يعتبر مؤسسات المجتمع المدني بمثابة (الأداة الأساسية لإصلاح فساد المجتمع السياسي وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية..) لكن كثيراً من قوى المجتمع المدني غالباً ما تكون مقصية في الدول القمعية عن الحيز العام.
إن الديمقراطية كمفهوم ينبغي أن تتجذر في المجتمع البشري أولا كشكل من العلاقات البينية بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، قبل أن تتمثل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، كونها بالأساس نبتة اجتماعية تجود بها عقول الناس في حالة من استعصاء العلاقات بين الكيانات الاجتماعية، من جانب آخر فالديمقراطية (هي الشكل الطبيعي لممارسة الطبقة البرجوازية لهيمنتها الطبقية حسب تعبير مهدي عامل)، أي أن الإدارة السياسية للدولة التي تشغلها البرجوازية تعود لهيمنة البرجوازية في مجال التنمية والإنتاج، والاقتصاد عموما، فبالهيمنة الاقتصادية تأتي الهيمنة الطبقية، ومن هذا الوضع تتولد الديمقراطية كحالة من العلاقات الطبيعية، فإذا ما انتفت هذه الهيمنة، تنتفي الديمقراطية أيضا لأن المجتمع البرجوازي برأي ماركس هو الذي يحافظ على تماسك الدولة، وبالمقابل فإن أحزاب البرجوازية الصغيرة عندما تتمثل بالسلطة تنتهي بالتحنط في أجهزة تابعة للدولة تفقد دورها النضالي الذي عرف به في يوم من الأيام، حينما تخطف البرجوازية الصغيرة دفة السلطة في غفلة من الزمن، كما أن الانقلابات العسكرية التي قام بها بعض الضباط ظهرت لنا فيما بعد أنها كانت تجارب فاشلة، وما رفعت حينها من شعارات فضفاضة كانت للاستهلاك والتعمية، فمضمون تلك الشعارات كان بحاجة إلى كفاءات فكرية، وللأسف كثير من رواد النهضة راحوا خلف الخطاب القومي والشعارات القومية، وراحوا يكبلون أجهزة الدولة بعقيدة سياسية أو دينية، فقطعوا بالتالي الطريق أمام نهوض البرجوازية الديمقراطية كشكل طبيعي للتقدم الاجتماعي، كونها أيضا الحامل الأكيد للديمقراطية، فالثورة البرجوازية في مرحلةٍ ما ضرورية ومهمة لكي يتسنى لها كنس كل بقايا الماضي المتخلف.
المصيبة تكمن في أن الأنظمة العربية تحول دون ترسيخ الديمقراطية كمبادئ أولية في الواقع السياسي العربي بالاحتكام مثلاً إلى صناديق الاقتراع في حال اختيار الحاكمين. لكن المصيبة الكبرى في هذا السياق أن مجتمعاتنا العربية أيضا لا تتقبل الرأي الحر أو الديمقراطية في تناولنا لتراثنا الديني مثلا بالنقد والتحليل، والدولة ربما لضعفها تبدي شيئاً من التراجع الخجول أمام المد الديني الأصولي، فلا تظهر كحاضنة لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن الدين الذي يعتقد به هذا الفرد أو ذاك، مثلا لا تجد قبطيا واحدا في البرلمان المصري، والدولة المصرية لم تحل دون محاكمة الدكتور نصر حامد أبوزيد، ولا حتى مواجهة التهديد، فهاجر مضطرا ليموت في بلاد الاغتراب مأسوفاً عليه، وكان الأولى بالمختلفين معه فكريا أن يواجهوا الفكر بالفكر، لا الفكر بالمدفع، وكان على الدولة أيضا لا التغاضي، بل كان عليها ردع المعتدي.
لإرساء أسس الديمقراطية في أي نظام، لا بد من تفعيل مؤسسات الدولة، والفصل بين السلطات المختلفة، وترسيخ شأن القوانين واحترامها، من هنا يمكن أن نمضي نحو التحول الديمقراطي بثقة، مع وجوب إيلاء جانب التنمية البشرية والاقتصادية الأهمية الأولى، فضلا عن ترسيخ مبدأ المساواة واحترام حرية الفرد وحقوقه على أساس المواطنة بصرف النظر عن انتماءاته السياسية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية، وأي نظام في أية دولة ينشد الديمقراطية كمبدأ لا بد أن تكون الحكومة فيها حكومة الشعب حسب تعبير الرئيس الأميركي الأسبق حيث يقول: (إن الحكومة الديمقراطية حكومة الشعب، من الشعب، لمصلحة الشعب).
علينا أيضاً التنبه هنا إلى أن ترسيخ الديمقراطية في الدول والمجتمعات يتطلب بداية درجة من تطور المجتمع، ووجود قيادة مخلصة ومؤمنة بالديمقراطية كحالة بديلة لما هو متداخل من الأطروحات الأخرى، ولا بد من توسيع مجال مشاركة سائر التنظيمات السياسية المختلفة، والقبول بحكم الأكثرية، لا بد من انتشار التعليم وإشاعة ثقافة الديمقراطية وبانتشار الثقافة الديمقراطية سوف تنتشر العلمانية على نطاق واسع، لأنها تقوم على المحاكمة العقلية، والثقافة الديمقراطية تبيح لها هذا المحظور، أو هذه اللفظة الرجيمة بلغة الأصوليين الإسلاميين.
وثمة من يقول إن الديمقراطية لا تناسب هذا الواقع أو ذاك، ربما جرّاء زعزعة كراسيهم أو عروشهم، إذا كانوا من المتنفذين وأصحاب امتيازات تدرّ عليهم ما تدرّ. إن أي إشكالية في الديمقراطية يمكن أن تعالج من خلال مزيد من الديمقراطية وليس بنفيها. إن الديمقراطية هي الإكسير الناجع لكثير من الأدواء في المجتمع والدولة، كما قلتُ في مقالة سابقة، وإن أية ذريعة أخرى تناقض مبادئ الديمقراطية إنما الغاية منها هي إدامة الاستبداد والتسلط إلى أبد الآبدين.