فكرة حمل السلاح هي فكرة إنسانية مغرقة في القدم. إنها ndash;دائماً- أقرب إلى الغريزة، فالإنسان البدائي حين عرف السلاح تعلّم أن حمله له يقيه من المخاطر المحدقة به من جرّاء الطبيعة المحيطة ndash;حينذاك- والتي تحوي من المخاطر أكثر مما تكتنز من الأمان.

كان هذا تصرفاً مبرراً في بدء البشرية وله أسبابه التاريخية والطبيعية المعروفة، ولكنّ هذه الغريزة تأبى أن تغادر الإنسان، فهو خاضعٌ لها في كثيرٍ من أحيانه، تارةً حين لا يحصل على التطوّر الطبيعي معرفياً، ويفتقد التعليم الصحيح، وتارةً حين يفقد الأمان فينسيه الخوف والدفاع عن النفس تعليمه ومعارفه، فتعيده الغريزة إلى المربّع الأوّل من التخلّف والبدائية، وتاراتٍ لأسبابٍ أخرى تتداخل فيها السياسة والأيديولوجيا والاقتصاد وغيرها.
لم تزل البشرية في جدليةٍ مستمرةٍ بين حمل السلاح وحمل السلام، بين الإصغاء لما يمليه العقل حيث الرأي والحكمة والسلام وبين الإصغاء لما تمليه الغرائز حيث الخوف والدفاع عن النفس، وحيث يعمل بنشاطٍ وهم القوة وسراب القدرة على الأذى، وأشدّ من هذا الإيمان العميق بالسلاح.

يمكننا في هذا السياق قراءة كثيرٍ من الأحداث السياسية في منطقتنا في الوقت الحاضر، فإيران تسعى للحصول على السلاح النووي، والعالم يعارضها، وبعض جيوبها في المنطقة تساندها، لا لشيء إلا لأن الوهم بأن دفع الخوف والدفاع عن النفس لا يكمن تحقيقه إلا بقوة السلاح هو وهم غريزي قديمٌ لدى البشر، يتناسون لأجله قوة الحق وقوة السياسة وقوة الاقتصاد وقوة المعرفة وغيرها من القوى المؤثرة والفاعلة في عالم اليوم أكثر من قوة السلاح.

إن الدّول والمجموعات البشرية المنظّمة هنا وهناك بعضها مرتهنٌ للغريزة البدائية وبعضها منخرطٌ في شروط العالم الحديث، فبعض الدول تكاد تختصر مفهوم القوة في السلاح والأيديولوجيا وبعضها ينظر للقوة بمفهوم أكثر حضارةً ورقياً، ولئن كان في المثال خير برهانٍ، فكوريا الشمالية ndash;مثلاً- مغرمةً بسلاحها وأيديولوجيتها، ونقيضتها الجنوبية مغرمة بالتطوّر والتقدّم والمنافسة على قوّة السياسة والاقتصاد والعلاقة مع العالم، وما يصحّ على الدول يصحّ على المجموعات البشرية المنظّمة ndash;كذلك- حيث نجد أن بعضها كـquot;القاعدةquot; والحركات المتطرفة في الشرق والغرب، مغرمة بالسلاح والأيديولوجيا، وبعضها الآخر كما في كثير من المنظمات المدنية في العالم مغرمٌ بالتنمية والترقي والتقدّم في كافة المجالات.

إن الحصول على أحدث وأكبر الأسلحة هاجس كثيرٍ من الدول اليوم، والحصول على أكثر الأسلحة انتشاراً هاجس الحركات والمجموعات المنظمة، والفرق بينهما كيفٌ وكمٌ، كيفٌ لدى بعض الدول والمنظّمات، وكمٌ لدى البعض الآخر. فثمة حركات وتنظيمات -كـquot;القاعدةquot;- تسعى لامتلاك أسلحة كيفية كالأسلحة البيولوجية والكيميائية ونحوها، وكلاهما في الهمّ قتل وتخريب ودمار.

في الشرق الأوسط ثمة فوضى عارمة فيما يتعلّق بالسلاح، ولئن كانت الدول العظمى مهتمة بمنع السلاح الكيفي عن دول المنطقة، فإنها لا تعير شأناً ذا بالٍ للسلاح الكمّي، أقصد بالكيفي الأسلحة النوعية الخطيرة كالأسلحة النووية ونحوها، وأقصد بالكمّي الأسلحة الخفيفة كالرشاشات والمسدسات والبنادق ونحوها، ولئن كانت الأسلحة الكيفية تخضع للرقابة العالمية بشكل حذرٍ وقويٍ فإن مقابلتها الكمية لا تحظى بالشأن ذاته.

إن الأسلحة الكمية منتشرةٌ بشكل مؤذ في الشرق الأوسط المضطرب، ولنأخذ أمثلة على هذا العراق ولبنان، واليمن وباكستان، والصومال وأفغانستان، فحين يمعن المراقب النظر يجد أنّ هذه الدول تكاد أن تحوز قصب السبق في خطورتها على أمن المنطقة ودولها والعالم أجمع، ففيها يسهل فرض الاضطراب والفوضى، ومنها يسهل السعي لتخريب العالم والتخطيط ضدّه وضدّ مصالحه، ولنأخذ الأسلحة الكمية لا الكيفية كميزانٍ ومعيار.

في باكستان وأفغانستان سلاح بلا عدٍّ، وفي اليمن ما يضاهيهما، وفي الصومال حدّث ولا حرج، وقل مثل هذا في العراق ولبنان، والوجود الأميركي في العراق وأفغانستان لا يمثّل فارقاً فهما مختطفتان، على مستوى كمّ الأسلحة لا على كيفيتها، وكثيرٌ من المعارك لا يمكن حسمها إلا بالكم لا بالكيف.

لم تزل الأخبار تترى في الفترة الماضية عن محاولاتٍ لضبط السلاح في أكثر من بلدٍ، ففي اليمن حيث تشير التقارير الأميركية إلى أنّها أصبحت أخطر من باكستان ndash;قاعدياً- وتؤكد أحداث المنطقة على خطورتها على الجوار ndash;حوثياً- يجري سجال بين الحكومة اليمنية والعالم حول خطورة quot;القاعدةquot; في اليمن واتخاذها له كمقرٍ لتخريب اليمن والمنطقة والعالم، ففي اليمن عمليات quot;القاعدةquot; معروفة والإعلام يتابعها، وفي المنطقة انطلقت من اليمن محاولات قاعدية لاغتيالاتٍ سياسيةٍ في المملكة وتخريبية أكثر عموماً، أمّا في العالم ففي اليمن أنور العولقي وأتباعه، كالنيجيري عمر فاروق الذي حاول تفجير طائرة ديترويت، والطبيب الأميركي ذو الأصل العربي نضال مالك حسن الذي قتل أصدقاءه في القاعدة الأميركية quot;فورت هودquot; في تكساس، وما يزيد تلك الخطورة غير الملجأ الآمن للتنظيم هو تفشي السلاح الكمّي في اليمن بلا رقيبٍ ولا حسيب.

ولم تزل الأنباء تتوالى من لبنان عن مخاطر ومساوئ فوضى السلاح التي تعيشها البلاد، من سلاح quot;حزب اللهquot; إلى سلاح الأحباش إلى سلاح quot;فتح الإسلامquot; وغيرها من المنظّمات والجهات التي تمتلك أسلحة كمية فاق بعضها سلاح الدولة نفسه، وفاق بعض تسليحها جيش لبنان ذاته، فـquot;حزب اللهquot; وسلاحه الذي كان يختبئ خلف تقديس المقاومة فضح نفسه في غزوة بيرت، وسلاح الأحباش مفضوح من قبل ومن بعد وغزواته في بيروت مذكورة ومعروفة قديماً، أمّا سلاح quot;فتح الإسلامquot;، فقد أقلق لبنان قبل فترة قريبةٍ، ومن هنا فليس مستغرباً أن تصدر تصريحات من الرئيس اللبناني تؤكد على أن الجيش وقوى الأمن يمثلان سلاح الدولة، وأكثر منه تصريحات رئيس الوزراء سعد الحريري، التي تؤكد أن quot;بيروت والمناطق الأخرى ممنوع أن يكون فيها أي سلاحٍ، فمن نحارب بهذا السلاح الموجود هنا؟ هل سنحارب بعضنا بعضا؟ أم ننتظر أن تقع الفتنة ثم نتساءل عن الأسباب؟quot;!

العراق يشكي ذات الهمّ، ويكتوي بويلات انفلات السلاح، وقتلاه في كل يومٍ يزدادون عدداً، ودماء أبنائه تنساب ظلماً وعدواناً بين عشيةٍ وضحاها في مدنه وقراه، والصومال الضائع يعاني مثل العراق وأكثر، وتفجيرات المتطرفين تطال فنادقه ووزراءه واستقراره كله، وفوضى السلاح فيه لا تبدو لها نهاية وشيكة ولا حل قريب، وما على المراقب إلا تتبع أنباءه الداخلية وأنباء قراصنته في القرن العشرين ليدرك خطوة هذا الانفلات وهذه الفوضى في السلاح.

نافع أن تلتفت دول المنطقة والعالم للأسلحة الكيفية وأن يحاصروها في المنطقة، ولكن ما يوازي هذا نفعاً، وربما تجاوز عليه هو محاصرة الأسلحة الكمية، والتخفيض من انفلاتها وفوضاها والحدّ من انتشارها.