عرفان نظام الدين


سئلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية الراحلة غولدا مائير عن أسعد يوم في حياتها فردت: إنه يوم حريق المسجد الأقصى، فقد انتابتني موجات من الفزع والقلق من ثورة غضب عربية وإسلامية تجتاح العالم وتهدد أمن إسرائيل ووجودها وحاضرها ومستقبلها، ولم أنم من كوابيس السيناريوات التي تخيلتها كردة فعل على هذا العمل الخطير.

وسئلت: وماذا عن أسعد يوم في حياتك فردت بسخرية لئيمة: اليوم التالي عندما استيقظت من كوابيسي وتابعت الأخبار وردود الأفعال فوجدت أنها متواضعة كالعادة: مجرد تظاهرات واضطرابات واجتماعات وبيانات تنديد واستنكار، وعندما مرّ اليوم على سلام أيقنت ان مخاوفي كانت مجرد أضغاث أحلام.

هذا المشهد البانورامي للحالة العربية المزرية فيه الكثير من مكونات صورة laquo;المضحكات المبكياتraquo; في المواقف العربية وردود الأفعال وأساليب التعامل مع الأحداث والتطوارت والمخاطر على مدى أكثر من قرن كامل من الزمن وبالتحديد خلال 62 سنةً من عمر نكبة فلسطين والاحتلال الصهيوني الغاشم.

صراخ و بكاء وعويل وتظاهرات تستمر يوماً أو يومين ثم يخلد المحتجون للراحة ويتبادلون الشتائم والنكات ويتهم كل طرف الآخر بالتسبب بالكوارث ويضع المسؤولية على كتفه من دون أن يحاسب نفسه أو يعترف بدوره في حدوث المآسي والكوارث.

اجتماعات وقمم طارئة وعاجلة وعادية تصدر قرارات لا تنفّذ وتبقى حبراً على ورق وترمى في سلة مهملات الجامعة العربية التي لا تجمع أحداً إلا في التظاهر، وبيانات شجب وتنديد واستنكار وتحذير من مخاطر المرحلة ووحشية العدو الصهيوني وخطورة المؤامرات الدولية وانحياز القوى العظمى للعدو من دون اتخاذ ولو خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح.

كل هذا يؤكد اتهام العرب بأنهم مجرّد laquo;ظاهرة صوتيةraquo; تعلو بسرعة وتخفت بسرعة وتنتهي مفاعيلها وكأن الكل قد أدى قسطه إلى العلى أو حقق الأهداف التي تسعى إليها الأمة، من دون أن ننسى الإعلام ودوره في الترويج للانتصارات الوهمية والمزعومة على مدى 62 سنةً من الصراع مع الصهاينة، مع اعتراف الجميع بأنه صراع وجود لا مجرّد صراع حدود، وأن مصير الأمة مجتمعة والدول العربية متفرقة مهدد في صميمه نتيجة لهذا الصراع.

وما يهمنا هنا بالذات هو قضية القدس الشريف ومصير المسجد الأقصى المبارك من خلال الصورة المأسوية التي رسمتها غولدا مائير بأسلوب سافر يطعن الشرف العربي في الصميم ويهين الأمة بكاملها ومعها أكثر من مليار مسلم يعرفون جيداً الأهمية الدينية والتاريخية للمدينة المقدسة وقدسية المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين الذي بارك الله من حوله.

ويخطئ من يظن ان الخطر القائم جديد وآني وأن المطامع الصهيونية مستجدة لأن المؤامرة مرسومة منذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948 والذي شمل نصف القدس وسمّيت laquo;القدس الشرقيةraquo; وصدر قرار عن الكنيست الصهيوني باعتبارها العاصمة الوحيدة والنهائية لإسرائيل واستكمل بضم القدس الشرقية العربية في حرب عام 1967 بقرار مماثل.

منذ اللحظة الأولى من يوم التاسع من حزيران (يونيو) بدأ تنفيذ الخطة الجهنمية لتهويد القدس وانتهاك المؤسسات الإسلامية والمسيحية والبدء بالحفريات تحت المسجد الأقصى المبارك بحثاً عن أي أثر يهودي لاستخدامه كذريعة لهدمه وإقامة ما يسمى بالهيكل على أنقاضه. ولكن خاب أمل الصهاينة فلم يعثر علماء الآثار على أي دليل أو حجر يثبت الرواية الصهيونية ومع هذا فإن الحفريات قائمة على قدم وساق ما يهدد في شكل أكيد وخطير أسس المسجد فيما جحافل المتطرفين الصهاينة يقتحمون الحرم الشريف بزعم الصلاة فيه للترويج لمزاعم قدسية الهيكل والتمهيد النفسي والسياسي والدولي لجريمة الهدم.

والمؤامرة مستمرة ومتواصلة باستخدام أساليب الترغيب والترهيب لتهجير أهل القدس الأصليين ومنها:

- إغراءات كبيرة لشراء الأراضي والممتلكات من أصحابها.

- مصادرة أراضي وممتلكات المسافرين والغائبين.

- هدم منازل وشوارع كاملة بحجة عدم الحصول على رخص قانونية والبناء في شكل غير شرعي!

- التضييق على السكان لحملهم على الهجرة وفرض ضرائب باهظة عليهم وتشديد الضغط لتحويل حياتهم إلى جحيم.

- اعتقالات وتقييد حريات وإبعاد وإغلاق مراكز ونوادٍ فلسطينية.

- إحاطة الأحياء العربية بمستعمرات استيطانية شوهت صورة القدس الروحانية وحوّلتها إلى مكعبات إسمنتية بشعة ترسم صورة الوحشية الصهيونية بأسوأ معالمها.

- الاعتداءات المتكررة على الأقصى وتكرار حالات الاقتحام والاشتباك مع الأهالي بعد مصادرة حائط البراق وتحويله إلى ما يسمى بحائط المبكى لاستخدامه كمعلم مقدّس لليهود.

- مع تهديد أسس بناء المسجد وقبة الصخرة المشرفة أجريت محاولات عدة لإحراق المسجد كان آخرها في 21 آب (أغسطس) 1969 واتهم بها صهيوني أسترالي زعمت السلطات انه مختل عقلياً.

وهذا الحدث الخطير الذي أشارت إليه مائير في تعليقها الساخر لم يكن بلا ردود فعل كما ادعت بل استطاع المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز حشد الأمتين العربية والإسلامية لنصرة القدس وعقدت أول قمة إسلامية في الرباط أسفرت عن قيام منظمة المؤتمر الإسلامي وتشكيل لجنة القدس برئاسة الملك الحسن الثاني عاهل المغرب الراحل.

واستبشر العرب والمسلمون خيراً بالنتائج، ولكن مع مرور الأيام خابت آمالهم، فاستشهد الملك فيصل عام 1975 لأنه ردّد أن حلمه الكبير أن يصلي في المسجد الأقصى المبارك بعد تحريره، وتحوّلت منظمة المؤتمر الإسلامي إلى مؤسسة خاملة لا لون ولا طعم ولا رائحة ولا موقف حاسماً وموحداً لها أسوة بالجامعة العربية المشلولة، ووضع المسمار الأخير في نعش لجنة القدس بعد وفاة الملك الحسن الثاني.

والآن كيف سيرد العرب والمسلمون على التحدي الصهيوني الأخير المتمثل في إكمال مؤامرة تهويد القدس ووصول خطة هدم المسجد الأقصى المبارك إلى laquo;ربع الساعة الأخيرraquo;. فكل الدلائل تشير إلى ان إسرائيل دخلت في سباق مع الزمن لإتمام خططها بأسرع وقت ممكن لقطع الطريق على أي محاولة لإدراج قضية القدس في أية مفاوضات قادمة ووضع الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم كله أمام أمر واقع.

فقد شهدنا في الأيام القليلة الماضية مؤشرات عدة على صحة هذا الأمر من بينها:

- استئناف مصادرة العقارات الفلسطينية بعد توقف لم يستمر سوى عامين، وصدور قرار بتطبيق قانون أملاك الغائبين.

- هدم البيوت الفلسطينية ولا سيما في الأحياء العربية وصولاً إلى قرية سلوان التي كان قد جرى عرضها كنواة لإقامة ما يسمى بالقدس العربية مع بعض الأحياء والقرى المحيطة بها.

- الكشف عن مخطط إسرائيلي لإقامة مبانٍ ومنشآت جنوب المسجد الأقصى في القدس القديمة بهدف تغيير معالم المنطقة.

- تكرار عمليات اقتحام المسجد الأقصى من قبل المتطرفين الصهاينة بحراسة قوات الاحتلال وتكثيف التحركات والتظاهرات لمحاصرة المسجد والدعوة إلى هدمه وبناء هيكل سليمان بعد إعداد كل الخرائط والتجهيزات اللازمة.

ومع كل هذا لا نجد تحركاً عربياً جدياً ولا نهضة إسلامية حقيقية لمواجهة هذه المؤامرة... فالعدو يتحرّك بكل وقاحة وعلى laquo;عينك يا تاجرraquo;، ولم يعد يخفي مطامعه فيما العرب والمسلمون يتفرجون على الحدث بلا مبالاة مع أن كل الدلائل تشير إلى ان هدم المسجد الأقصى سيحدث زلزالاً في العالمين العربي والإسلامي لن ينجو أحد من حممه وبراكينه لأن مثل هذه الجريمة لن تمر من دون عقاب، بل ستكون بداية لأحداث جسام لا يمكن أي عربي أو مسلم أن يتخطاها أو يعالج انعكاساتها ونتائجها.

إنه النداء الأخير من القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك لكل من يملك مقومات الشرف والإيمان... ولكل من تسري في عروقه دماء عربية وإسلامية وحتى مسيحية لأننا كلنا في الهم شرق... لا بل هو الإنذار الأخير لمن يسمع ويتعظ!