محمد الصياد

ندرك مسبقاً درجة الحساسية التي تنطوي عليها إثارة هذا الموضوع ومناقشته مناقشة مجردة من أية توجسات ومن دون تهيب لا معنى له في هذا الزمن الذي لم يعد فيه الحديث عن الخصوصيات يمتلك مقومات الصمود والاستمرار أمام الانقلاب الثوري الذي أحدثته ثورة الاتصالات ووضعت فيه العالم بأسره بين يدي أي متصفح لمواقع شبكة الإنترنت ولو كان في أقصى أقاصي بقاع كرتنا الأرضية وذلك على مدار الساعة .

في البدء نطرح التساؤلات الآتية:

- هل هناك ثقافة قائدة تُوجّه بوعي وتُشكّل وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي والوعي الفردي للمجتمعات الخليجية؟

- هل تمتلك الهوية الخليجية مقومات الحصانة قبالة تيارات التغيير والتأثير الحضاري المتواصل تدفقها من كافة زوايا الأرض من دون انقطاع؟

- هل هنالك قوى اجتماعية رئيسية يمكن لها أن تؤثر في مسارات التطور المتصلة بصورة مباشرة وغير مباشرة بالهوية الخليجية ولها مصلحة في الحفاظ على هذه الهوية؟

- وماذا عن أنماط الحياة السائدة في المجتمعات الخليجية؟ هل هي أنماط مساعدة على بلورة شخصية أو هوية خليجية إيجابية؟

- أخيراً وليس آخراً: هل ثمة هوية خليجية أصلاً؟ وإذا وُجدت فما هي سماتها؟

أسئلة كثيرة يمكننا طرحها هنا في معرض مناقشتنا لهذه الإشكالية التي تُجمل وتختزل المحتوى الثقافي والاجتماعي والنفسي لمجتمعات الخليج المعاصرة .

مع بعض الاستثناءات، تعتبر مجتمعات الخليج المعاصرة مجتمعات منفتحة على العالم، وإن بدرجات متفاوتة، ربما كان مجتمع البحرين الحديث أكثرها باعاً في هذا المجال نتيجة لأسبقية البحرين في اكتشاف النفط . وبما أن النفط شكّل ولا يزال يشكّل مفتاح العلاقة بين بلدان الخليج النفطية والعالم الخارجي، وخصوصاً بلدان المركز الرأسمالي التي تمتلك كبريات شركات النفط العالمية الحائزة على امتيازات الاستكشاف والتنقيب في هذه المنطقة، باعتبار أن النفط لا يزال يشكل نواة مزيج الطاقة العالمي وعصب حركته الاقتصادية، فلا بد، والحال هذه، لهذه المجتمعات المرتبطة بالوجهات التسويقية لهذه المادة الخام، من أن تتلاقح وتتمازج مع بقية أنحاء المعمورة .

والمفارقة ها هنا أنه برغم الخلفية التاريخية (الصحراوية البدوية) لمجتمعات هذه البلدان النازعة، بحكم طبيعة نشأتها، نحو المحافظة، إلا أن العلاقات النفطية التي أنشأتها الاكتشافات النفطية في العقود الثلاثة الأولى من القرن الماضي قد حتمت التحاقها بالمراكز الحضرية عبر العالم والانفتاح على عوالمها، عبر مقايضة الذهب الأسود الكامن في باطن أراضيها لأزمان مديدة بمختلف سلع ومنتجات وأدوات الحضارة الجديدة . لتأتي قفزتان نوعيتان في أسعار النفط في عامي 1973 و1979 وتحيل بلدان الخليج ومجتمعاتها النفطية إلى أكبر الأسواق العالمية امتصاصاً لفائض قوة العمل في بلدان الأطراف (الآسيوية تخصيصاً)، الأمر الذي أنشأ ديناميكيات ديموغرافية واجتماعية وثقافية ونفسية جديدة لم تكن لتمر من دون أن تترك بصمات واضحة على أنساق القيم ومجمل الهيكل الاجتماعي والثقافي لمجتمعات الخليج، وترتيباً على أنماط الحياة السائدة فيها .

وقد تغيرت معالم وملامح مدن وقرى وأحياء مجتمعات الخليج المعاصرة وفقدت طابعها وخصوصياتها التي ظلت تميزها حتى منتصف سبعينات القرن الماضي كمجتمعات عربية ذات نكهات خليجية، خاصة من حيث المزاج العام المتناغم والمتقارب اجتماعياً وثقافياً ونفسياً، بما في ذلك مجتمع الكويت المعاصر الذي بقي محافظاً على نزعته ونكهته العربية إلى ما بعد ذلك، حتى الغزو الصدامي لدولة الكويت في 2 أغسطس/ آب 1990 .

اليوم حين يتفرس الواحد منّا في أحياء مدننا سيجد أن بعضها لم يعد يشبهنا، بقدر ما يشبه أحد الأحياء في إحدى المدن الهندية، فيما سيجد بعضنا الآخر كما لو أنه في قندهار أو بيشاور، خصوصاً في ظهيرة يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث تغلق شوارع الحي ليحتلها المصلون الآسيويون المتشربون في بلدانهم بثقافة نفي الآخر، والتحريض على كراهيته، ويستمعون لخطيب من أبناء جلدتهم لا يتوانى عن قذف من يطلق عليهم بالكفار من الديانات الأخرى بأقذع النعوت والصفات، والدعوة عليهم بالهلاك والفناء .

وعما إذا كان هناك حراك اجتماعي أهلي بمضامين ثقافية حافظة للهوية العربية الخليجية بموازاة الحراك الاجتماعي النشط للمجموعات السكانية الوافدة، نقول إن هذا الحراك موجود، وإنما على نطاق ضيق، وليس بالزخم نفسه في المجتمعات الخليجية كافة، إذ هو مقصور على مجاميع من النخب التي لا تتمتع بتأثير يمكن الاعتداد به على مسارات التقدم التي تمثل الحركة اليومية الدؤوبة لعملية إعادة الإنتاج الكلية .

وأما في ما يخص الهوية الخليجية، فإننا لا نجادل بشأن وجودها من عدمه، فهي موجودة واكتسبت زخماً كبيراً بعد إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام ،1981 وإنشاء جسر الملك فهد الذي ربط البحرين بالبر السعودي الشاسع، ومن خلاله ببقية بلدان المنظومة الخليجية . فلقد قرّبت هذه التطورات شعوب البلدان العربية الخليجية من بعضها بعضاً، مصلحياً (اقتصادياً) واجتماعياً وثقافياً . ونزعم أن هذا الصرح الخليجي الجامع (مجلس التعاون) هو الذي يوفر اليوم المقوم الأكثر عملية والأفعل للتوظيف في سياق عمل أشمل وأوسع نطاقاً يرمي للحفاظ على الهوية الخليجية، ويشمل، بالإضافة إلى ما تقدم اعتماد سياسة وبرنامج تنفيذي على الصعد الديموغرافية والتربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية .

وهذا كله يتطلب وضع رؤية مشتركة على المستوى الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ترفع إلى المجلس الأعلى لاعتمادها وإقرارها قبل تحويلها إلى الأجهزة والجهات المختصة في دول المجلس للشروع في تنفيذها .