أمير طاهري
على مدار الأيام القليلة الماضية، امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بتعليقات وتكهنات حول التأثير المحتمل لخفض أعداد القوات الأميركية المتمركزة بالعراق على التطورات المستقبلية في العراق. وتحدث بعض المعلقين عن هذا الإجراء باعتباره حدثا laquo;تاريخياraquo;، مشيدين بالرئيس باراك أوباما لإنجازه اتفاقا أبرم في عهد سلفه. ودارت هذه التعليقات حول فكرة مفادها أن الرئيس سيتمكن من ادعاء شرف أنه أنجز حربا بدأها سلفه laquo;الشريرraquo;.
بيد أن الأمر ينطوي على مشكلتين، الأولى أن متملقي أوباما لا يشعرون بالارتياح إزاء الاعتراف بأن الانسحاب الهائل للقوات الأميركية من العراق أصبح ممكنا بفضل تمكن الجيش العراقي الجديد وحلفائه الأميركيين من هزيمة laquo;القاعدةraquo; بالعراق.
الثانية: خفض أعداد القوات لا يعني وضع نهاية للمشاركة الأميركية في العراق، حيث ستبقي واشنطن على قرابة 50000 جندي هناك، مدعومين بمئات الطائرات الحربية وأسطول كامل من السفن الحربية بالمنطقة. ولا تغير مسألة أن الجنود الباقين يوصفون بأنهم laquo;غير مقاتلينraquo; من الحقيقة في شيء. إذا اقتضت الضرورة، سيجري تغيير الوصف لتصبح هذه الوحدات laquo;مقاتلةraquo;.
أما أولئك الذين يفضلون الموت على الاعتراف بأن الإطاحة بصدام حسين كانت قرارا صائبا، وأن العراق اليوم، رغم أنه ليس نعيما، يبقى أفضل حالا عما كان عليه في ظل حكم التكريتيين، فهؤلاء يشيرون أيضا إلى إخفاق سياسيي بغداد في التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة جديدة.
وادعى أحد المفكرين من أنصار أوباما أن التأزم السياسي الراهن يكشف أن العراقيين ليسوا على استعداد لنظام حكم تعددي يقوم على الانتخابات. وتتمثل الفكرة الضمنية هنا في أنه حال عدم الإطاحة بصدام حسين من السلطة، كان سيتمكن من تشكيل حكومة جديدة في غضون خمس دقائق.
بيد أن العراق ليس الدولة الوحيدة التي استغرقت وقتا لتشكيل حكومة ائتلافية، فقد سبقته بلجيكا، على سبيل المثال، وهي دولة تتميز بتاريخ من الديمقراطية يزيد على قرن من الزمان. ورغم ذلك، لا تزال من دون حكومة رغم مرور عامين على محاولات بناء ائتلافات وعقد انتخابات عامة مرتين. وفي الوقت الراهن، تناضل ديمقراطية عريقة أخرى، أستراليا، للتغلب على تعقيدات تشكيل حكومة ائتلافية.
كانت الانتخابات العامة الأخيرة في العراق مجرد خطوة نحو ثقافة سياسية غير طائفية في ذلك البلد. وكانت تلك المرة الأولى التي جرى خلالها تقديم هويات طائفية باعتبارها المعيار الأساسي للاختيار. ومع ذلك، قد يتطلب الأمر عقد عدة انتخابات أخرى قبل أن يتعلم الناخبون تماما التصويت لصالح البرامج السياسية وليس الولاءات الطائفية.
بعيدا عن الصدامات الذاتية، التي تعد أحد ملامح جميع الأنظمة السياسية، فإن تشكيل حكومة ائتلافية في العراق واجه صعوبة بالغة. وتجد الأحزاب الرئيسية نفسها مجبرة على التفاوض للتوصل إلى اتفاقات حول قضايا لا يحملون تفويضا انتخابيا واضحا بشأنها.
في هذا الصدد، يمكن تحديد ثلاث قضايا رئيسية:
تخص الأولى السيطرة الفعلية على موارد البلاد النفطية وعوائدها. ولم يسلط الضوء على هذه القضية خلال الحملة الانتخابية ولم تعرض أي من الأحزاب الرئيسية موقفا واضحا حيالها.
ومع ذلك، يمكن تحديد وجهتي نظر في هذا السياق على الأقل: تخص الأولى الذين يرغبون في إقامة حكومة مركزية قوية ويصرون على أن نفط العراق ينتمي لشعبها ويجب استغلاله نيابة عن الأمة بأسرها. ويعني ذلك أن جميع القرارات المرتبطة بحقوق استغلال النفط وجميع العقود المرتبطة بها يجب اتخاذها داخل بغداد.
وتدور وجهة النظر الثانية حول فكرة أنه نظرا لكون العراق الجديد هيكلا فيدراليا، فإن عملية اتخاذ القرار تجاه صناعة النفط يجب أيضا إصباغ الطابع الفيدرالي عليها. في الوقت الحاضر، يعني ذلك أن حكومة كردستان المتمتعة بالحكم الذاتي والقائمة داخل ثلاث محافظات بالشمال، ينبغي أن تتمتع بحق تنمية الموارد النفطية داخل الأراضي التي تسيطر عليها. إلا أنه إذا قبلنا بهذا المبدأ، فإن وحدات laquo;فيدراليةraquo; أخرى قد تدعي الحقوق ذاتها لنفسها في المستقبل.
أما القضية الثانية فتتعلق بالأجندة الخفية لبعض الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، والرامية لإقامة منطقة فيدرالية تتمتع بالحكم الذاتي في ثماني محافظات جنوبية. وتتضمن هذه الوحدة الجزء الأكبر من laquo;العراق المفيدraquo; وأكثر من 70% من احتياطيات النفط بالبلاد. ومن شأن إقامة هذه المنطقة الفيدرالية ترك بغداد كرأس ضخم من دون جسد.
المعروف أن خلق دولة عربية خاضعة لنفوذها شكل جزءا من استراتيجية إيران منذ القرن السابع بعد الميلاد. وأنشئت أول دولة على هذا النحو كحائط صد عازل ضد الإمبراطورية البيزنطية. وترمي طهران لاستغلال الدولة العازلة المخطط لها في جنوب العراق ضد الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. يأتي ذلك في الوقت الذي يصعد نجم الحرس الثوري الإسلامي باعتباره القوة الحقيقية داخل طهران، ونجح بالفعل في بناء وحدة خاصة laquo;لإدارة العلاقاتraquo; مع الدولة الصغيرة المزعومة في جنوب العراق.
ترتبط القضية الثالثة بكركوك، حيث باتت غالبية الأحزاب الكردية تتبع توجهات تسعى لضم مناطق جديدة وتنظر حتى إلى الموصل كهدف مستقبلي.
مع وجود مثل هذه المخاطر الكبرى، من غير المثير للدهشة أن نجد أن الحديث حول تشكيل حكومة ائتلافية استغرق كل هذا الوقت، خاصة أن الأحزاب المعنية لا تحمل تفويضا من ناخبيها لعقد اتفاقات بشأن النفط أو الكيان الفيدرالي أو كركوك. ويعني ذلك أنها تحاول تسوية قضايا حيوية تتعين تسويتها في انتخابات مستقبلية.
ويتمثل السبيل العملي للخروج من هذا المأزق في تشكيل حكومة على أساس الواقع القائم وليس التكهنات المستقبلية. ويمكن القول بأن العراق اليوم لا يزال في طور التشكل، وستتحدد صورته الأخيرة عبر سنوات من التطورات السياسية غير المتكافئة. وفي ظل مرحلة التطور والتشكل تلك، يتعذر على أي حزب أو جماعة فرض وجهة نظره على الآخرين. لذا، يبقى السبيل الأمثل أمام الأحزاب الالتفاف والدوران حول القضايا، مما يتسبب في مزيد من التعطيل لجهود تشكيل حكومة.
أما السبيل الأكثر حكمة فيتمثل في تنحية هذه القضايا جانبا في الوقت الراهن والتركيز على خلق ائتلاف بمقدوره العمل على تحسين مستوى الأمن وتوفير الخدمات الحكومية الأساسية. أيضا، يحتاج العراق إلى إعادة التفاوض بشأن مكانته الدولية، خاصة عبر السعي للتخلص من جميع العقوبات المفروضة عليه تحت مظلة الأمم المتحدة، مع الحيلولة دون تدخل الدول المجاورة في شؤونه.
لقد استغرق الأمر من الولايات المتحدة قرابة ربع قرن كي تصيغ بصورة كاملة نظامها الفيدرالي، ولم يتم تحديد صورة واضحة لطبيعة الولايات وعلاقاتها بالحكومة المركزية في واشنطن سوى بعد حرب الانفصال في منتصف القرن التاسع عشر.
من المنظور العملي، تبدو القضايا الثلاث التي أخرت تشكيل ائتلاف حاكم ببغداد مجرد أفكار مجردة لأنه حتى إن تم التوصل لاتفاق، فإن الحكومة في ظل حالة الضعف المسيطرة عليها الآن ستعجز عن تنفيذه.
إن ما يحتاجه العراق حكومة تتعامل مع الواقع القائم. وكلما قربت لحظة نيل العراق هذه الحكومة، كان ذلك أفضل.
التعليقات