Thomas P. M. Barnett - World Politics Review

سلّطت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية اهتمامنا على جزء من العالم يعاني ألماً شديداً واضطراباً اجتماعياً بسبب العولمة، وأجبرتنا بالتالي على خوض حرب منهجية غيّرتنا، وغيّرت المناطق التي تحاربنا معها للأبد.

دخلت الولايات المتحدة مرحلةً جديدة في عملياتها بالعراق، تلك التي تمثل نهاية 'الحرب الضائعة' بالنسبة إلى كثيرين، واستمراراً في بناء الأمة من دون اللجوء إلى القتال بالنسبة إلى آخرين، وشعوراً غامضاً حيال التزام لا نهاية له بالأمن العالمي بالنسبة إلى الجميع تقريباً. لا يدري الأميركيون، الذين هم بأمسِّ الحاجة إلى تفسيرات واضحة للنجاح أو الفشل، ما يعنيه هذا المنعطف، لاسيما منذ أن تحول اهتمامهم، في نظر كثيرين، إلى أفغانستان وباكستان.

في الوقت عينه، يدق بعض المحللين ناقوس الخطر عبر الإعلان عن مخاوفهم من 'حرب دائمة' رغم أننا لم نعلن رسمياً حرباً على أحد منذ عام 1943. أما بالنسبة إلى بقية دول العالم، فتتمتع البشرية راهناً بأكثر الفترات سلماً في تاريخها المسجل.

ما الذي نستخلصه إذن من عالمنا هذا الذي يشهد على بروز غير مسبوق وسلمي لطبقة متوسّطة عالمية، ويواصل مع ذلك مطالبة قواه العظمى ببذل جهود حثيثة لدمج الحدود بين المناطق النامية؟ بينما يستفيد الجميع على ما يبدو من تلك الطبقة المتوسطة الناشئة، وحده الغرب يشعر بالحاجة إلى تصدير الأمن إلى أكثر البقع الساخنة اضطراباً على الدوام بواسطة قوات عسكرية على الأرض وتعاون عسكري. في المقابل، تواصل البلدان الناشئة التي تشكل ركيزة الشرق والجنوب، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا والهند والصين، حصد المنافع على حساب الجهود الغربية، بينما تعتبر نفسها قوى عظمى وتعزز قدرتها العسكرية. فضلاً عن ذلك، تفضل وصفنا على أننا مشكلة أكثر منه حل، من دون أن تقدّم في الوقت عينه أي حلول بديلة جدية.

باختصار، بينما يشهد العالم تغييراً جذرياً في البنى، لايزال الغرب الهرم في حقبة ما بعد التصنيع يغطي 'الرهانات' الأمنية كافة، نرى أن دول الشرق والجنوب الصاعدة التي تتحول بسرعة إلى دول صناعية تفتقر إلى النضج العسكري والرؤية الاستراتيجية للمشاركة وتقديم يد المساعدة الضرورية جداً في هذه المرحلة. لذا نرى أوروبا التي تُحتضَر سكّانياً تناضل من أجل إعادة ترتيب جيوشها الصغيرة نسبياً لتصبح أشبه بالقوات الاستكشافية، بينما تراكم الصين الغنية بالمال واليد العاملة الأسلحة المتطورة التي لا تنفع سوى في قتال القوى العظمى النظيرة.

لذلك، قد يستمر هذا التفاوت في الموارد لفترة طويلة جداً بالنظر إلى بعض حلفائنا السابقين الذين يفتقرون إلى نعمة الفهم. خذوا مثال باكستان التي لم تعترف في النهاية بأن نسختها الداخلية عن حركة 'طالبان' تشكّل تهديداً أمنياً أكبر من الهند، إلّا بعد أن استغرقها ذلك عشر سنوات وتطلّبها مساعدات عسكرية أميركية بقيمة عشرة مليارات دولار أميركي.

بين كل ذلك تقف الولايات المتحدة التي تواصل، على نحو مذهل، البحث عن قوة الإرادة السياسية لاختبار رؤية الأمن الدولي وإدارتها، رغم أن مثل هذه الجهود تساهم في دينها العام الكبير، وبالكاد تحتويه. ورغم تضحيتنا المتواصلة بأنفسنا، لايزال العالم يكن لنا عدائيةً أكثر منها امتناناً، ومكافأةً قليلة لقاء صفقة استراتيجية يمكن تلخيصها في ما يلي: 'الدم الأميركي لقاء النفط الصيني'.

مع ذلك، إنه لوهم تاريخي أن نفترض عدم ارتباط استقرار النظام العالمي اليوم والتوسع المدهش للعولمة بالجهود التي قمنا بها طوال العقود الماضية. حين شهدت قوى الاستعمار في أوراسيا نسخة مبكرة عن العولمة، أدى ذلك إلى حربين عالميتين أسفرتا عن مقتل الملايين وانقسام حاد بين البلدان الثرية والفقيرة في العالم. في المقابل، تقوم 'الإمبراطورية' الأميركية، بالشكل التي هي عليه، على أساس قرار صدر منذ 65 عاماً بتعليق الحروب بين القوى العظمى ونظام تجاري ليبرالي دولي يمكِّن الأفراد في أنحاء العالم ويعززهم ويثريهم، لاسيما النساء. ذلك ما صنعه 'نظامنا الإمبريالي' و'عجرفتنا'، بحسب تعبير بيتر بينارت.

بمعنى أبسط، لم تستقِم أمور العالم إلا حين تدخلنا وسعينا إلى إعادة تشكيله بصورتنا، وكما قال الحكيم دينغ زياوبينغ، أعطينا الأولوية للاقتصاد، ومن ثم الديمقراطية. واليوم، تسير الأمور على خير ما يُرام، في ظل مخاوفنا الكبرى من أن أرواحاً كثيرة متحررة باتت ترغب في الكثير وبسرعة فائقة. ما كان يسري في السابق بشأن 'الاختلاف الكبير' (اغتنى الغرب، بينما نُهبت بقية دول العالم) الناجم عن قوى الاستعمار في أوراسيا، لم يعد له أثر اليوم بفضل 'التلاحم الكبير' (الذي تحدث عنه الكاتب الأميركي فريد زكريا في كتابه الجديد 'نهوض الآخرين: عالم ما بعد أميركا عقب عام من انتخاب أوباما') والذي أوجدته ريادة الولايات المتحدة وتضحيتها المستمرّتين، أليست هاتان الخصلتان تجسدان مشاكل البشرية حتى الساعة؟

لا شك في أنه أينما آتت استراتيجيتنا العظيمة، المعروفة بـ'فتح الأبواب'، ثمارها، تتعزز الثورة الاجتماعية. لذلك نشعر أنه لدينا مسؤولية خاصة للتصدي لجهود من يقاومونها، مثل 'القاعدة' و'طالبان'، عبر محاولة احتجاز الشعوب ضمن أنظمة تسلطية. وما يزيد من تعقيد الأمور أن قوى الاستعمار في أوراسيا خلفت وراءها عالماً متطوراً تعيقه حدود كثيرة أُسيء ترسيمها ودول مزيفة تأسست بشكل عبثي. لذلك من شأن مهمة ترتيب الفوضى الطويلة الأمد والملقاة على عاتقنا أن تطغى على أجندتنا الأمنية لعقود مقبلة رغم أنها بالكاد ستستطيع تحديد ملامح القرن الراهن لأن ظهور الطبقة المتوسطة العالمية سيفي بذلك. في المقابل، ستعيد العولمة منهجياً رسم خريطة الدول المزيفة مع اختراقها لها، بغض النظر عمّن يؤدي دور الوسيط في عملية اندماج تلك الدول. ينطبق ذلك أيضاً على الصينيين الذين يعكس مبدؤهم القائم على 'عدم التدخل' جهلاً متعمّداً إن وُجد.

إن كنتم لا تصدقونني، لاحظوا حين ترسل الولايات المتحدة قواتها إلى دولة مضطربة كيف ينتهي بنا الأمر غالباً إلى المساعدة في توليد عدد من الأمم المماثلة التي تخلف سابقاتها. في هذا الإطار، يشعر البعض أن هناك حاجة ضرورية إلى تصنيف مثل هذه الجهود ضمن خانة 'الانتصار' أو 'الهزيمة'، بينما يتمسك آخرون اليوم بالمفهوم الناشط 'لا مزيد من الحروب الشبيهة بحرب العراق' رغم جهود بناء الأمة التي انطلقت مسبقاً في أفغانستان وباكستان.

من جهتي، أفضّل التزام الواقعية بشأن المهام الاستراتيجية التي نواجهها. ما يعني أن العالم لن يكف في السنوات المقبلة عن مناشدتنا اتخاذ إجراءات الرد، الفاعلة وغير الفاعلة. لكن الأصوات التي تحذّر من الانعزالية ستجادل عكس ذلك، وكذلك مّن يحلمون بالحروب الضخمة ضد الخصوم المدججين بالسلاح. لكن وضع مشكلة جانباً لا يحلّها. نحن صنعنا هذا العالم ولن نتخلى عنه.

من الحقائق البديهية للتفكير المنهجي بالمستقبل أننا نميل إلى التحدث عن الحتميات بدلاً من الخيارات المزدوجة. غالباً ما يكون الجواب 'لا'، بل تتوالى الأجوبة السلبية، إلى أن يصبح لا مفر في النهاية من قول 'نعم'. فتُترك المشاكل من دون حل إلى أن تجبرنا الظروف التي أوجدتها على التدخل لإحداث تغيير جذري. مع ذلك، ما إن نجد أنفسنا عند هذه المنعطفات، غالباً ما نتظاهر بأننا نجهل سببها متسائلين: 'لمَ يكرهوننا؟' أو 'ما سبب خسارتنا هذه الحرب؟'، أو حتى، 'لمَ لا نستطيع إعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً؟'.

سلّطت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية اهتمامنا على جزء من العالم يعاني ألماً شديداً واضطراباً اجتماعياً بسبب العولمة، وأجبرتنا بالتالي على خوض حرب منهجية غيّرتنا، وغيّرت المناطق التي تحاربنا معها للأبد.

كلا الطرفين شهد معاناةً كبيرة بالتزامن، لكن أياً منهما لن يعود إلى سابق عهده، وهذا في مصلحة الاثنين. فضلاً عن ذلك، تنتظرنا في السنوات المقبلة أمثلة متكررة كثيرة بالزخم عينه، وستجبرنا كل منها حتماً على صقل علاقات وطيدة مع قوى عظمى ناشئة غير مستعدة لمشقات مثل هذه الشراكة. بالتزامن، سيحاول أولئك الذين يسعون إلى التنصل من المسؤولية بشتى الوسائل إيجاد منافذ مغرية للهرب، لن يسعفهم التاريخ كثيراً في محاولتهم للتهرب من المسؤولية.

مع ذلك، ورغم أن التاريخ غالباً ما يضعنا أمام منعطفات بالغة الأهمية، لكنه لا يفسح لنا مجالات للتراجع. لا نستطيع إلغاء إنتاجنا الذي يُعرَف بالعولمة، كما لا نستطيع حل الأسلحة النووية (نعمة أميركية أخرى للعالم لايزال تأثيرها يتحدى التوقّعات المشؤومة كافة). نستطيع المضي قدماً فحسب، وتعزيز الترابط مع دول العالم كافة، وتقبل التحديات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية، والتكنولوجية، وحتماً الأمنية التي تلي.

في النهاية، لاتزال الولايات المتحدة أكثر القوى ثوريةً على وجه البسيطة. لذا إن أحببتمونا أو كرهتمونا (ولكم الحرية في ذلك)، لن يغيّر ذلك شيئاً من 'جيناتنا' ومبادئنا الراسخة. نحن أمّة تدمج الحدود وترفض التراجع، أو حتى الوقوف مكتوفة اليدين، فضلاً عن أن العالم أصبح بالنتيجة مكاناً أفضل.