خيرالله خيرالله

يبدو الخائفون من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مصممين على أمر واحد هو نسف المحكمة ليس إلاّ. يفترض بهؤلاء إدراك أن ذلك ليس ممكناً بالصراخ. الصراخ لا يلغي المحكمة الدولية التي تنظر في جرائم ذات طابع إرهابي على رأسها جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الأخرى التي تلتها أو مهّدت لها. المحكمة مستمرة، وأي كلام عن laquo;شهود الزورraquo; لا معنى له نظراً إلى أن أحداً لم يحدد بعد من هم شهود الزور. الأهمّ من ذلك، أن المدعي العام للمحكمة نفسها لم يسرب أي معلومات تتعلق بوجود شهود زور أو عدم وجود هؤلاء، كما لم يحدد موعداً لصدور القرار الاتهامي. وهذا يعني في طبيعة الحال أن الأمر كله مقتصر على تكهنات ومحاولات تستهدف الضغط على الحكومة اللبنانية من أجل أن تعمل على التخلص من المحكمة. هل في استطاعة الحكومة اللبنانية نسف المحكمة التي بات laquo;حزب اللهraquo; يعتبرها إسرائيلية؟
ربما لدى الحزب، الذي يمتلك ميليشيا مسلحة تشكل لواء في laquo;الحرس الثوري الإيرانيraquo;، أسبابه الخاصة التي تدفع في اتجاه الضغط من أجل التركيز على إسرائيل في التحقيق في اغتيال الحريري. تبقى إسرائيل، إلى اشعار آخر، المكان المفضل لممارسة عملية الهروب إلى أمام من جهة، ورفض الاعتراف بأن على الطرف العربي، أي طرف عربي حتى لو كان تابعاً لإيران، تحمل مسؤولياته ومواجهة الواقع كما هو بدل السعي إلى تجاهله عن طريقة ممارسة لعبة التذاكي وافتعال صدامات داخلية من جهة أخرى.
في النهاية، لا يمكن للمحكمة الدولية سوى أن تتابع سيرها. المحكمة ولدت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب قرار اتخذ تحت الفصل السابع. ولذلك، يمكن القول ان الرئيس سعد الحريري كان عاقلاً عندما بذل كل ما يستطيع من أجل الفصل بين سير التحقيق وعمل المحكمة من جهة، وموقفه الشخصي من جهة أخرى. فسعدالدين رفيق الحريري رئيس لمجلس الوزراء في لبنان. وفي اللحظة التي قبل فيها أن يكون في هذا الموقع، بدأ يتصرف بصفة كونه على رأس حكومة laquo;وحدة وطنيةraquo; يتوجب عليها أوّلاً حماية مصالح لبنان والفصل بين المحكمة والعلاقة مع كل من سورية وإيران وتوابعهما في لبنان.
من هذا المنطلق، امتلك سعد الحريري ما يكفي من الشجاعة ليتحدث عن laquo;أخطاءraquo; ارتكبت في مرحلة معينة وليضع ما يسمى قضية laquo;شهود الزورraquo; في نصابها، وليؤكد أهمية العلاقة مع سورية والسوريين. وحده التحقيق الدولي سيثبت ما إذا كان النظام السوري متورطاً أم لا في اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الأخرى التي استهدفت اللبنانيين الشرفاء الذين يمثلون الوجه المشرق للعروبة في هذا الزمن العربي الرديء. وحده التحقيق الدولي سيظهر ما إذا كان laquo;حزب اللهraquo; على علاقة ما بالجريمة والجرائم الأخرى بدءاً بمحاولة اغتيال مروان حماده في الأول من اكتوبر 2004 بواسطة سيارة مفخخة... أم انه بريء من ذلك.
المهم في نهاية المطاف صدور القرار الاتهامي الذي سيحدد من وراء الجريمة والجرائم الأخرى. يكفي صدور القرار كي يعرف اللبنانيون أن جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الأخرى التي تلتها لم تمر ولن تمر كما مرت عمليات الاغتيال التي كان لبنان مسرحاً لها منذ العام 1977 حين استُهدف كمال جنبلاط لأسباب ليست خافية على أحد...
تكمن أهمية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في أن المجتمع الدولي أخذ على عاتقه وضع حدّ للجرائم التي ترتكب في الوطن الصغير والقاء المسؤولية على طرف لا علاقة له بها من قريب أو بعيد. هل من يريد أن يتذكر الاعتداءات التي استهدفت قرى مسيحية في الشوف بعيد استشهاد كمال جنبلاط؟ اغتيل مسيحيون وقتذاك ودمرت منازل بهدف تعميق الشرخ الطائفي في لبنان والتغطية على المجرم الحقيقي الآتي من خارج الحدود.
ليس لبنان وحده معنياً بالمحكمة الدولية. المحكمة مسألة مرتبطة بالعدالة الدولية واسسها، علماً بأنّ هناك من يعترض عليها. هل هناك عدالة دولية أم لا... هل يظل لبنان استثناء؟ ما على المحك يتجاوز لبنان وحدوده بكثير. فانهيار المحكمة الدولية يعني انهيار كل المحاولات الجارية لملاحقة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ودول افريقية عدة من ليبيريا، إلى سييراليون، إلى رواندا، إلى السودان...
ستبذل جهود كثيرة للتخلص من المحكمة الدولية. حين يجد laquo;حزب اللهraquo; نفسه مضطراً إلى التزام الهدوء، سيحرك أدواته من مستوى النائب ميشال عون، وما شابه ذلك من أيتام النظام الامني- السوري - اللبناني الذين يستخدمون عادة في حملات تغطية كل أنواع الجرائم في حق لبنان واللبنانيين. ستكون صدامات في الشمال والجبل والجنوب وستستهدف القوات الدولية في جنوب لبنان مجدداً عن طريق laquo;الأهاليraquo;. سيستخدم السلاح، كما حصل أخيراً في برج أبو حيدر، لتأكيد أن بيروت مدينة محتلة. سيٌستفز سعد الحريري يومياً إما عن طريق الحملات ذات الطابع الشخصي مثل تلك الحملة التي شنها عليه الأمين العام لـ laquo;حزب اللهraquo; بسبب تفقده آثار العدوان على مسجد لأهل السنّة في برج أبو حيدر، أو عبر ابتزاز الحكومة بطريقة مبتذلة يمارسها الوزراء والنواب العونيون، ومن على شاكلتهم من الذين لا يخجلون من تبرير الاعتداءات على المواطنين العزل في بيروت والمناطق اللبنانية الأخرى بواسطة سلاح ميليشيوي. ستستخدم كل أنواع الأسلحة لتهديد المحكمة بما في ذلك المس بالسلم الأهلي في الوطن الصغير. مشكلة الذين يخافون المحكمة أنهم لا يدرون أن الضغط على لبنان وحكومته لا يفيد في شيء. مشكلتهم أنهم لا يعرفون شيئاً عن العالم وعن التوازنات الإقليمية والدولية. مشكلة هؤلاء أنهم لا يعرفون أيضاً أن في الإمكان قلب الطاولة على الجميع في لبنان من دون أن يعني ذلك سقوط المحكمة. قلب الطاولة شيء والتخلص من المحكمة الدولية شيء آخر. سقوط الحكومة شيء وسقوط المحكمة شيء آخر. العالم تغيّر. هل من يريد أخذ العلم بذلك وأن اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 لن يمرّ مثلما مرّ اغتيال كمال جنبلاط في العام 1977... أو بشير الجميل في العام 1982، أو رينيه معوض في العام 1989!