محمد صلاح


في الموروث الشعبي المصري أن فلان laquo;يغرق في شبر ميهraquo; أي أن الشخص المقصود ليست لديه دائماً قدرة على اتخاذ المواقف السليمة إذا تعرض أو واجه تحدياً أو فوجئ بقرار أو إجراء يؤثر فيه، فيجد نفسه حائراً لا يجد ما يفعله، ينتهي به الأمر إلى الاختناق رغم أن الهواء قريب منه. في الواقع العملي فإن المصريين يعتقدون أن حكومتهم ترتبك في مواقف عدة وتغرق laquo;في شبر ميهraquo; وتفقد القدرة على السباحة رغم أن المياه تحتها لا تكون عميقة ويمكن المشي فوقها بقليل من البلل ليس أكثر.

نماذج وأدلة وأحداث عدة تثبت ذلك الاعتقاد عند الشعب المصري الذي يتابع الآن واقعة جديدة غطت تداعياتها عنق الحكومة التي تتنفس بالعافية من تحت أزمة كان يمكن ألا تحدث من الأساس، وبعدما وقعت كان يمكن معالجتها قبل أن تستفحل، وحتى بعدما تفاقمت كان يمكن أن تعالج بصورة تحفظ قدرة الحكومة على التنفس وليس الاختناق تحت شبر من المياه. الأمر يتعلق بحكم أصدرته المحكمة الإدارية العليا الأسبوع الماضي قضى بإلغاء عقد كانت الحكومة أبرمته مع شركة طلعت مصطفى باعت فيه الأولى إلى الثانية مساحة كبيرة من الأرض مقابل مبلغ مالي، وأقامت عليه الثانية مشروعاً سكنياً عملاقاً أطلقت عليه اسم laquo;مدينتيraquo; يفترض أن يتم على مراحل، تم تسليم المرحلة الأولى منه. ووفقاً لخطط المشروع فإنه ينتهي بعد نحو عشرين سنة، ما يعكس حجمه وكلفته وقيمة الاستثمارات فيه وحجم المستفيدين منه.

ملخص الأزمة أن مهندساً سعى إلى شراء أرض من الحكومة في المنطقة نفسها (على طريق القاهرة ndash; السويس الصحراوي) لكنه لم ينجح لأسباب لا مجال لذكرها، فلجأ إلى القضاء الإداري متهماً الحكومة بأنها باعت من هذه الأرض لمشروع laquo;مدينتيraquo; من دون اتباع الإجراءات السليمة، ما حرمه من حقه في الشراء، ونال حكماً بأن العقد المبرم بين الحكومة وشركة طلعت مصطفى باطل يجب إلغاؤه. آلاف المواطنين الذين كانوا حجزوا شققاً وفيللاً في المشروع شعروا بالخوف، كما هبطت أسهم مساهمي الشركة في البورصة المصرية، وأصدرت الشركة بياناً طمأنت فيه الحاجزين والمساهمين والتزمت الحكومة الصمت بحجة عدم التدخل في أحكام القضاء. انتظر الجميع مرحلة التقاضي التالية لكن المحكمة الإدارية العليا ثبتت الحكم الأول وأكدت أن العقد باطل ولاغٍٍ. فضرب الارتباك الحكومة وخرجت تصريحات laquo;إنشائيةraquo; تضمنت تطمينات من دون أن تحدد ما الخطوة التالية. وشكل رئيس الحكومة الدكتور أحمد نظيف لجنة هدفها دراسة الحكم ووضع خطة للتعاطي معه في المستقبل!

الأزمة لم تكن وليدة الحكم ولكنها نشأت قبله عندما لم تراع الحكومة القواعد القانونية في التعاقد مع الشركات، وبعدها عندما بدأ القضاء الإداري النظر في القضية، إذ كان يتعين على الحكومة وأجهزتها دراسة كل الاحتمالات والإعلان بشفافية كاملة عن خطط لعلاج الأزمة قبل أن تنشأ. لكن الحكومة التي لا تمتلك خططاً كيف لها أن تعلنها؟ بمنتهى البساطة إذا كان العقد لم يراع القواعد السليمة يمكن للحكومة أن تبرم عقداً جديداً مع الشركة يتوافق مع القواعد السليمة، وإلا فإن آلاف المستفيدين من المشروع سيلجأون بدورهم إلى القضاء لنيل حقوقهم من الحكومة التي كانت السبب وراء الأزمة، كما أن الشركة نفسها التي لا دخل لها بأزمة الحكومة تستطيع اللجوء إلى التحكيم الدولي لنيل تعويضات والحفاظ على مصالحها. وفي الذاكرة واقعة مشابهة اضطرت معها الحكومة إلى تسديد مبالغ طائلة إلى شركة أخرى بعدما سحبت أرضاً كانت باعتها إلى تلك الشركة. المشهد الآن أن الحكومة المصرية تتنفس بـ laquo;العافيةraquo; رغم أن الهواء حولها ويمكنها الوصول إليه بسهولة، فقط اذا امتلكت القدرة على التنفس!