محمد عبدالله محمد

لاعِبان أساسيان اليوم في العِراق: الأميركيون والإيرانيون. يليهما في المقام التالي دولٌ تُطِلُّ على العراق عبر النافذة لا أكثر ولا أقل! كيف يُعرَف ذلك ويُتَثَبّت منه؟ بالتأكيد هو يُرَى عبر الفعل السياسي اليومي هناك. الموقف الرّسمي من هذه الدولة أو تلك. الحضور الاقتصادي والدبلوماسي. تموضع الحلفاء لهذه الدولة أو تلك في مفاصل السلطة.

اليوم أهمّ حدث سياسي عراقي هو تشكيل الحكومة المُعطّل منذ ستة أشهر. الدلائل والأمارات كلّها تُشير إلى أن اللاعِبَيْن الأساسيين ذاتهما هما من يُدير اللعبة بكتِفَيْن معقوفَيْن، لكنهما يتغالبان في أمرها أيضاً. وقد بدا ذلك الأمر جلياً بمراقبة الدور الإيراني في قضايا التشكيل والتأهيل والتأجيل بالنسبة للحكومة العراقية، وضمّ الشيء إلى الشيء أو العكس.

على المكشوف، يحجّ السياسيون العراقيون بشكل مستمر إلى طهران وقم ومشهد المقدّستين للتداول والتشاور والتباحث. جزءٌ مهم من الشخوص وفعلهم ونفوذهم وتحالفاتهم موجود في الأراضي الإيرانية، إنْ بفعل الظروف أو بفعل التاريخ أو بفعل القرابة laquo;النَّسَبِيَّةraquo; أو laquo;السياسيةraquo; أو laquo;العقائديةraquo;. لا يهم، فجمعُهُم يلتقي كيما اتّفق.

مقتدى الصّدر (40 مقعداً) زعيم تيار الفُتُوَّة الأول في العراق ومُرشده الروحي (المرجع الديني آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري) موجودان هناك. وقد تحوّلت علاقة الصّدر بالدولة الإيرانية ومؤسساتها من علاقة رمادية قبل العام 2006 إلى علاقة عضويّة تتماهى فيها مصالح الطرفين وظروف الفعل السياسي على الأرض بما يتفق وموازين القوى.

المجلس الأعلى الإسلامي العراقي (20 مقعداً) تُحيط به مرجعيات حوزة قُم ومفاعل الدولة الإيرانية من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية إلى مجالس الخبراء والتشخيص، والصيانة والأعلى للأمن القومي، والتي نُسِجَت منذ مطلع الثمانينيات من القرن المنصرف عندما كان منتسبوا المجلس يحطّون برحالهم في إيران بعد سنوات من خصامهم الدموي مع البعث.

حزب الدعوة الإسلامية (89 مقعداً) لم يَعُد قادراً على معارضة طهران التي دعَّمَت من حكمه منذ أيام إبراهيم الجعفري (7 أبريل/ نيسان 2005 - 20 مايو/ أيار 2006) وحتى نوري المالكي (20 مايو 2006 ولغاية الآن) حين رصدت لحكومة كلّ منهما ملياري دولار ووفّرت لهما الدعم السياسي لمواجهة ضغوط أطراف أخرى في الداخل وفي المحيط الأمر الذي أبقاهما في أَوَد السلطة.

الأكراد (52 مقعداً) لا تبدو علاقاتهم أقلّ من ذلك المجموع. يكفي أنهم أعطوا الإيرانيين ورقة عبور مفتوحة في الشّمال العراقي حيث مناطق حاجي عُمران وبانجوان ومندلي وبدرا، ولَجَمُوا لهم تحرّكات حزب الحياة الحرّة الإيراني الكردستاني المعارض (بيجاك) بل وخيّروه ما بين البقاء laquo;مُسالِماًraquo; أو الهجرة إلى الجبال والفيافي لا يلوي على شيء. كما أنهم (أي الأكراد) هرّبوا لطهران البنزين المُنقّى قبل أن تكتفي منه الجمهورية الإسلامية رغم الحظر الدولي المفروض عليها.

هنا يُتَسَاءل: أمام هذا التمدّد الإيراني في العراق، أين يكمن النفوذ الأميركي إذاً؟ الإجابة ليست مُتَعَذِّرَة. فحلفاء إيران هم ذاتهم حلفاء الولايات المتحدة باستثناء الصّدريين وبعض الحركات الصّوفيّة التي تغوّل داخل فروها حزب البعث. وهنا يُتساءَل أيضاً: كيف حدَثَ كل هذا؟ الإجابة ليست صعبة كذلك، لكن خيوطها وتلابيبها لا تبدأ من الآن، وإنما منذ أن كانت موازين القوى تجري بالضّد لما يجري الآن.

فهؤلاء الحاكمون اليوم في العراق وعندما كانوا خصوماً لنظام صدام حسين كانت طهران هي حاضنتهم الأساسيّة يعتاشون على أرضها ومالها وتسهيلاتها في الوقت الذي كان فيه العالَم يلفظهم ولا يقيم لهم وزناً. تبدّلت الظروف وأصبح صدام خطراً وعدواً للغرب بعد عدوانه النَّزِقْ على دولة الكويت في أغسطس/ آب من العام 1990.

جاء الغربيون إلى المنطقة يبحثون لهم عن حليف يُقوّض نظام صدّام فلم يجدوا إلاّ هؤلاء الذين لم تمنعهم علاقاتهم بإيران أن يقيموا علاقة وثيقة بواشنطن أيضاً. في البداية وبعد الانتفاضة الشعبانية التي جرت في المحافظات العراقية الجنوبية خَشِيَت قوات الحلفاء من أن تلتهِم إيران التغيير السريع في العراق، فحصل ما حصل في خيمة صفوان، وأعطِيَ الطيران العراقي فرصة قمع التحرّك بقوّة وبقسوة متناهية.

بعد عقد من ذلك، وبعد مجيء المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض، جمّدت الأخيرة هَوَسَها من هذه الإشكالية وعينها على النفط والكيان الصهيوني فتعاونت مع المعارضة العراقية وأسقطت حُكم البعث في 9 أبريل من العام 2003 وسلّمته لهؤلاء بقضّه وقضيضه.

إلاّ أن الولايات المتحدة تبيّن لها أن علاقات هؤلاء بإيران أكثر رسوخاً مما توقعت. صحيح أنهم يُلبّون نداءات واشنطن ويُؤدّون لها السّمع والطاعة ويدفعون تعويضات لجنودها بسبب مشاكلهم النفسية، لكنهم في الوقت نفسه سعداء وهم يفعلون الأمر ذاته مع الإيرانيين، بل إن المالكي وحده وقّع معهم (الإيرانيين) 120 بروتوكولاً وتفاهماً في بحر أربعة أعوام من حُكمه فقط.

حاولت واشنطن أن تبحث عن بُدَلاء لهؤلاء، أو على أقلّ تقدير أن تلجمهم أو تُزاحمهم لكن الأمور باتت خارج السيطرة. فقد استولت هذه الأحزاب على كلّ شيء؛ وزارات الدولة السيادية والخدمية، والقضاء والجيش والشرطة والاستخبارات وحتى الميليشيات. وأصبح نفوذها كالسّماء الذي لا يُمكن الخروج عن ظلّه. لم يبقَ شيء يُسَاوَمُ عليه أو به.

كما أن فروض الديمقراطية الأميركية باتت تمنح هؤلاء فرصاً أكثر من غيرهم بعد أن انشطر العراق مذهبياً وإثنياً. فتركيبة البلد الديمغرافية تعطيهم laquo;الغَلَبَةraquo; على الآخرين. وبالتحالفات اللاحقة تعطيهم فرصة أكبر للاستئساد والتغوّل في جوف الأكثرية ونَهَمِها إلى أبعد حدّ، فضلاً عن قيامة laquo;الفدرلةraquo; التي يسيل لعاب البعض منهم نحوها.

خاتمة الأمر بالنسبة إلى واشنطن هو أنها تُناور ضمن هذا القَدر المتاح لها في الحصّة الإيرانية. والنتيجة الأكيدة لمناوراتها هي أن جميع مآلاتها لا تنتهي إلاّ كما تنتهي السّواقي للبحر. وبعبارة أدق أنها تقِف مكتوفة اليدين أو تساهم في تغذية الرضا الإيراني على حدّ تعبير ريدار فيسر. وربما تتذّكر واشنطن الآن أكثر من أيّ وقت مضى نصيحة الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو ميكيافيلي عندما قال laquo;من أراد أن يطاع فعليه أن يعرف كيف يأمرraquo;.