علي سعد الموسى

في أية ثقافة تحترم نفسها فإن مثل هؤلاء يجب أن يكونوا موضعاً للاتفاق والاختلاف البناءين وأن يكونوا قصة نقاش وجدال مثمرين من أجل الوصول إلى الحقائق المنشودة

هل يمكن أن تكون الجملة التالية ما بعد النقطتين صارخة ومستفزة: على أكتاف ثلاثة من اليهود قامت أساسات حضارة وتقدم إنسان القرن العشرين. ومن دون هؤلاء الثلاثة ربما كانت، أو لم تكن دورة العجلة بهذا التسارع. والثلاثة هم إسحق نيوتن، وسيجموند فرويد وألبرت إنشتاين. وإذ لا يمكن لأي نقاش سفسطي أن يجادل حول مساهمة نيوتن وإنشتاين في الإرث الإنساني الحديث، فسيبقى سيجموند فرويد بالنسبة لثقافتنا موضع خلاف واختلاف، ذاك أننا لا نعرف من تراثه الضخم إلا نظريته التصادمية حول النشوء والارتقاء وهي بالضبط ما أخفت خلفها سطوته الهائلة المذهلة في بقية مشارب علم النفس وأخفت أيضاً أثره وكل إرثه المنهجي الذي قامت عليه مدارس التحليل المعاصرة، لا في علم النفس فحسب، بل كل تيارات العمل النقدي في بقية التخصصات الأكاديمية الإنسانية. ثم إن الأهم أن الثلاثة لم يكونوا في المطلق من أركان الحركة الهرتزلية الصهيونية، والوحيد منهم الذي عاصرها كان ألبرت إنشتاين الذي رفض الدعوة المفتوحة ليكون أول رئيس إسرائيلي، ومن الثابت أنه رفضها لاختلافه المطلق مع البنية والفكرة الصهيونية. وكل هذه المقدمة لا تشفع للفكرة. الفكرة هي كيف تحيي الثقافات الأخرى من حولنا رموزها وكيف نحن في المقابل نقتل رموزنا وحتى وإن كانت بذرة في مستوى أقل إلا أن نهاياتهم كانت بالضبط لا مجرد عبرة فحسب، بل صرع للمثال والقدوة. على موقع ndash; ويكيبديا ndash; التثقيفي التعريفي هناك ما يشير إلى أكثر من ثلاثمئة مكتبة جامعية في الغرب تحمل اسم ألبرت إنشتاين. تشير الإحصاءات إلى حملة سنوية للتبرعات للأبحاث التي تجرى في معامل ومختبرات باسم إنشتاين تقارب الخمسة ملايين دولار ناهيك عن أن اسمه الضخم أصبح لزمة جوهرية في مناهج التعليم الأساسي من باب زرع المثال والقدوة. وعلى ذات الموقع الإلكتروني يذكر الإحصاء أن أكثر من عشرة آلاف رسالة علمية حتى اللحظة في ثنايا الدراسات العليا قد تعرضت لإرث سيجموند فرويد بالتحليل والنقد سواء في صلب هذه الأطروحات أو عناوينها المتباينة في عشرات التخصصات الإنسانية المختلفة.
ما الذي يدفعني للكتابة حول تباين الاستقبال والاحتفاء برموز العلم التطبيقي أو الفكري ما بيننا وبين الآخر؟ خلال الأيام الثلاثة الأخيرة اشتغلت بكل ما كان متاحاً، ورقياً أو إلكترونياً، بتوديع ثقافتنا لرمز عالمي مثل الراحل الأخير محمد أركون. ودعك من قول شارد لأحدهم بأنه كان المجدد الإسلامي في منتصف القرن الماضي وحتى رحيله فإن المؤسف بمكان ليس إلا بواعث الهجوم المخيف التي طالت لا إرثه الفكري فحسب، بل حتى الشخصاني من حياته. وقبل محمد أركون رحل ذات العام بمحمد عابد الجابري ونصر حامد أبوزيد وكلنا يعرف قصص الاحتساب التي اضطرت الأول أن يحاضر ذات يوم في عاصمة عربية تحت حراسة الأمن وقصة التهجير المؤلمة التي أنهت الأخير في منفاه البارد بعد معركة قضائية دامية. وأنا هنا لا أنفي أن يقع أو كان، أي من هؤلاء الثلاثة الرموز في الخطأ المنهجي الذي يتصادم مع ثوابت الثقافة السائدة ولكن هذا لن ينفي أيضاً أن المنهجية الحقة من حولهم أو من بعدهم تستلزم البناء بالجرح والتعديل حول كل ما سبقوا إليه أو بنوه. وفي أي ثقافة تحترم نفسها فإن مثل هؤلاء يجب أن يكونوا موضعاً للاتفاق والاختلاف البناءين وأن يكونوا قصة نقاش وجدال مثمرين من أجل الوصول إلى الحقائق المنشودة المثلى، ومرة أخرى عبر البحث والاستقصاء وعبر جدلية المدرسة. بعيد فرويد بزغت نظريات مايكل يونج التصحيحية وبعد الاثنين ارتفعت قواعد البناء وشواهده. لا أحد اليوم في مدارس النقد الحديث يشبه فرويد ولا يحاكي ذات مايكل يونج فهما مجرد بذرة تطورت من حولهما حديقة علم مختلفة وباسقة شاهقة. تأثرت بهما نعم، ولكن هذه الثقافة المعرفية في ذلك العالم تسارعت بشكل مطرد حتى لم يعد شكل البناء الحديث يشبه القاعدة ولكن القاعدة في الأصل مازالت هي القاعدة.
هذه ثقافة تحارب الرموز لأنها تحاول مباشرة أن تقبرها لمجرد الاختلاف دون أن تحاول معها الجرح والتعديل والمساءلة. دون أن تستطيع ثقافتنا أن تقبل الحقيقة في أن أية محاولة فردية لا يمكن لها أن تكون تجربة مكتملة ودون أن تدرك أن الاكتمال يحتاج إلى نسق تراكمي لا يلغي أوسطه أوله ولا يصادر آخره أوسطه. خذ مثلاً أن ابن سينا بكل إسهاماته المذهلة في العلم التطبيقي تحاكمه ذات الثقافة لما تتصوره من بعض هناته الأيديولوجية وأن اسمه قد أزيل حتى ولو من باب لوحة مدرسة كانت تحمل اسمه إلى زمن قريب وأن تراثه الطبي قد حذف من مقرر دراسي جامعي حول إسهامات علماء العرب والمسلمين في الحضارة الإنسانية الحديثة. وفي أثناء دراستي العليا، وفي مطلع التسعينات بالتحديد، كنت أدرس مادة على يد الأستاذ الزائر لجامعتي في علم اللسانيات، ذلك العربي المهاجر الضخم جاك دريدا وقد كان للمفارقة لا يغادر درساً دون الإشارة إلى ndash; أفيروس- ويومها كنت أستغرب من دريدا نفسه ربط هذا الاسم الذي يبدو لاتينياً صرفاً بالحضارتين العربية والإسلامية. وأتذكر أنه من المفارقة المخجلة المدهشة في آن أن جواب دريدا لهذا الربط ليس إلا لأن (أفيروس) هذا نفسه ليس إلا عربياً ذائعاً اسمه ابن رشد. ومن المخجل بمكان أن طلابنا وأبناء حضارتنا لا يقرؤونه إلا عند الذين تلقفوه مدرسة مذهلة في جامعات الغرب، بينما تبقى هذه الحقيقة في الخاتمة: صار (أفيروس) أشهر من الاسم الحقيقي (ابن رشد) بل أصبح اسمه المحرف على محركات البحث باللغة الإنجليزية يعطيك عشرات أضعاف الأضعاف عما يعطيك إياه اسمه الأصلي على ذات المحرك ولكن باللغة العربية. ولكم أخيراً أن تنظروا لهذه المفارقة: حين مات ابن رشد اجتمع القوم على وسيلة تخفي أثره كي لا يغسل بها الأجيال والعقول التي نخاف عليها، أو خافوا منها إن بقي إرثه. وبجوار قبره فتحوا حفرة أخرى، كما يقول التاريخ، بضعف عمق القبر وقبروا ما كان متاحاً من كتبه بجوار قبره. قصة ابن رشد وحدها تختصر كل قصة ثقافتنا مع رموزها المختلفة.