داود البصري

كلما يتحدث القوم في بغداد عن انفراج وتطور في العملية السياسية فإن نسب الهاربين من العراق تتزايد بطريقة مرعبة
مع فرحة وابتهاج أحزاب التحاصص والتناطح في بغداد المحتلة باتفاق الرقاق و( الآخوندية ) المؤلفة قلوبهم على تشكيل حكومة ملغومة جديدة بعد طول تنازع وشقاق ونفاق, جاءت الأخبار من القارة الاسترالية البعيدة لتحمل أنباء إنتحار طالب لجوء عراقي من مدينة (كربلاء) في معسكر احتجازه! وهي حادثة لا تثير طبعا أعصاب ولا مشاعر حكام بغداد الجدد ومماليكها المستحدثين الذين كانوا هم أنفسهم ضمن قبيلة اللاجئين العراقيين الذين توزعوا على منافي الدنيا شرقا وغربا والذين ببركات الحذاء الأميركي الثقيل وحده وجدوا انفسهم حكاما وقادة وساسة يصولون ويجولون في الشرق القديم ويسطرون السياسات (الستراتيجية) ويمنعون الماء والهواء عن الناس ويحاولون الظهور بمظهر القادة التاريخيين والمحررين العظام رغم بؤسهم وهوانهم على أنفسهم وعلى الناس ! وحوادث إنتحار اللاجئين قد تبدو مقبولة ومعقولة ويمكن تبريرها لو أن أولئك اللاجئين كانوا قادمين من مناطق يضربها الفقر والمجاعة والأوبئة والبراكين وغيرها من الأمور ولكنه في الحالة العراقية يمثل كارثة مضاعفة إذ أن المنتحرين والهاربين بالجملة والمفرد هم من مواطني أغنى بلدان العالم قاطبة وحيث يفيض النفط أنهارا ليتكفل المهربون بنقله وتحميله! وهم من بلد عربي يفتخر وزير نفطه (الإيراني) بأنه يضم أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم وكما كان يقول الحاكم المملوك السابق صدام حسين بأن آخر برميل نفط في العالم سيخرج من العراق, ومع ذلك فلا شيء في العراق القديم أو الجديد يبشر بخير بل أن العكس هو الصحيح , فكلما يتحدث القوم في بغداد عن إنفراج وتطور في العملية السياسية فإن نسب الهاربين من العراق والباحثين عن الخلاص في (دول الله) تتزايد بطريقة مرعبة وتؤشر على حالة نزيف سكانية لاتكترث لها أبدا الحكومة العراقية بل تعتبرها من مظاهر حرية السفر والديمقراطية رغم أن الخارجين من العراق ليسوا سياحا يتمتعون بصرف أموالهم في الخارج بل أنهم يقذفون بأنفسهم عند أول محطة لجوء توفر لهم الأمان و(الكهرباء) والحياة الإنسانية المعقولة فقط لا غير, فدول الجوار العربية كسورية والأردن وكذلك مصر قد امتلأت بأفواج العراقيين بعد أن ملأوا البر حتى ضاق فيهم وركبوا البحار ليجدوا أنفسهم في القارة الاسترالية أو في غابات آسيا المدارية أوفي مجاهل سيبيريا الثلجية , ولربما تسلل لاجئون عراقيون لمحطات الفضاء المحيطة بكوكب الأرض , وبدلا من أن يصدر العراق براميل النفط بات المصدر الأول لأفواج البشر الهاربين من التناطح والتحاصص والطائفية النتنة المتخلفة والعرقية والعشائرية المريضة, أعتقد بضرورة وقوف المجتمع الدولي وقفة تحذيرية جادة تجاه الحكومة العراقية التي تتصرف بلا مسؤولية ولا أخلاقية نحو شعبها بحيث تدفعه للجوء وحتى الانتحار وفي أوضاع بائسة من دون أن تفعل شيئا لإيقاف تلك الفضيحة الإنسانية التي لا يهتز لها ضمير أي مسؤول عراقي تناطحي تحاصصي يغرف بالأموال والمشاريع الوهمية ويمتص الرواتب الخيالية المجزية التي لا يستحقها مثل أعضاء البرلمان العراقي الذين يهبشون ويمتصون أجورا لا يستحقونها بالمرة وهي حرام من الناحية الشرعية لأنهم لا يؤدون ما يوازيها من مهام ومسؤوليات, وأذا كانت حملات اللجوء العراقية قد بدأت فعليا زمن المملوك صدام الذي كان مغرما بالحروب والمصائب و( الأكشن ) فإن خلفاءه وهم أسوأ خلف لأسوأ سلف لم يقصروا من جانبهم فهم يعتبرون ملف الهروب العراقي نصرا لهم, إذ يبررون ما يحدث بتصاعد الإرهاب في العراق متناسين مسؤوليتهم القانونية والشرعية في حماية الناس وقطع دابر الإرهاب وفي توفير العيش الكريم للشعب العراقي الذي رغم ميزانياته المليارية الرهيبة يعيش الفقر والتشرد والحاجة ويباع رقيقه الأبيض في ملاهي البعث السوري وفي المدن الإيرانية وغيرها من الأصقاع في بلاد ماوراء النهر والمحيط أيضا, البرلمان العراقي لا علاقة له بتلك القضايا بل أن كل مايهمه هو التوقيع الإسمي على قرارات يمليها الرئيس الأميركي أوباما بالتلفون, وعلى أمور وفرمانات تصدر من طهران ليصادق عليها في العراق, أما حماية الناس والدفاع عن سمعة العراق ومكانته الدولية ومساءلة الحكومة المعلقة عن إجراءاتها فهي من آخر الأمور التي يهتمون بها, حالات الإذلال التي تواجه المواطن العراقي في مطارات الدنيا ومطارات دول الجوار بلغت رقما قياسيا في مصيبتها , فغالبية الدول العربية ترفض دخول العراقي وحتى إن أصدرت له سفاراتها التأشيرة فإن لسلطات الأمن في تلك المطارات مهمة تعطيل التأشيرة وإلغائها دون أن تتحرك الديبلوماسية العراقية ولا السفارات العراقية التعبانة التي لا تدري ما تفعل بالضبط ولا كيف تتصرف خصوصا وإن ستراتيجية الدبلوماسية العراقية قد تشهد تغييرات متوقعة وحاسمة مع رحيل الوزير الكردي (هوشيار زيباري) عن المنصب وتسليم الجمل بما حمل للسيد صالح المطلك أو رافع العيساوي او حتى للسيد طارق الهاشمي أو لأي شخص آخر ضمن الاستحقاقات التحاصصية المتفق عليها في أربيل أو واشنطن لا فرق! فالديبلوماسية العراقية حاليا في حالة جمود مع وصول التحاصص للسفراء, الطريف أن زميلا لي في الدراسة كان بعثيا حتى النخاع ووصل للدكتوراه في التاريخ بجهود ومساعدات بعثية هو اليوم سفير في دولة خليجية بعد أن ربط نفسه بالتيار الصدري المكهرب, وهو طبعا لا علاقة له بعالم الديبلوماسية بل بكتابة التقارير الحزبية, المهم إن الديبلوماسية العراقية في العالم تبدو محرجة للغاية أمام التدفق الهائل للاجئين العراقيين عربا وأكرادا وحيث ترفض غالبية الدول الأوروبية إعطاءهم اللجوء وباتت عمليات الإبعاد المنظمة أمرا معروفا حتى في الدول الإسكندنافية التي كانت متساهلة نسبيا في السابق أما اليوم فسلطاتها قد أصابها الهلع من تصاعد أرقام طالبي اللجوء من العراق, وغيرت سياستها بالتالي, ويبدو أن عمليات الانتحار ستكون صورة المرحلة العراقية القادمة بعد أن أوصل الفاشلون من المماليك الجدد العراق لطريق مسدود باتت معه كل الحلول مسدودة وبات الخروج من الأزمات أمرا يحتاج لمعجزة في زمن إنتفت وانتهت فيه المعجزات, وستستمر قوافل اللاجئين العراقيين في التوافد ولا ينافسها في ذلك إلا قوافل اللاجئين القادمين من الصومال, خصوصا وإن هنالك مؤشرات واضحة على قرب تنفيذ الخطوات الأولى في أجندة تقسيم العراق, وهو ما سيكون موضوعنا القادم, الفشل العراقي العظيم لا يوازيه أي فشل آخر, لأن نتائجه ستكون وخيمة وكارثة على الشرق الأوسط برمته.