وليد أبي مرشد


سقى الله عصر ابن تيمية.
من روايات تاريخ العرب أن ابن تيمية كلف يوما مفاوضة المغول على أسرى من المدنيين كانوا أسروهم في هجمات على مدن سورية. وحين أدرك أن المغول يحاولون تسليمه الأسرى المسلمين فقط، دون أهل الكتاب، والاحتفاظ بهؤلاء كعبيد، رفض ابن تيمية العرض قائلا: أهل الذمة (أي أهل الكتاب) قبل أهل الملة (أي المسلمين). أي إنه طالب بتسليمه الأسرى المسيحيين واليهود قبل المسلمين.
أما اليوم، وبعد أكثر من سبعة قرون على laquo;مساواةraquo; أحد أبرز العلماء المسلمين الحنابلة laquo;أهل الذمةraquo; بـlaquo;أهل الملةraquo;، وعلى الرغم من توصية الإسلام بحماية الدولة والمواطن المسلم لهم - كون مسألة الإيمان يحاسب عليها الله وحده - تكشف أحداث مصر، ومن قبلها أحداث العراق، المتعلقة بالإخوة المسيحيين، أن السؤال لا يزال laquo;مَنraquo; يحمي أهل الذمة في العالمين العربي والإسلامي؟
في مصر بالذات، وعلى مدى العقود الأخيرة، لم يكن صعبا تلمس التدهور المطرد في العلاقات المذهبية بين المسلمين والمسيحيين الأقباط، فخلال السنتين الماضيتين فقط سجلت لجنة مصرية تعنى بحقوق الفرد 52 حادثة استفزازية ضد المسيحيين بقيت كلها دون مساءلة قانونية، إذ كانت تحل، في معظم الحالات، بترتيب السلطات المحلية أو الشرطة للقاءات مصالحة laquo;عشائريةraquo; بين المعتدي والضحية، بينما كانت تزداد، في المقابل، شكاوى الأقباط من القيود المفروضة على بناء كنائس جديدة.
مع ذلك، من الإجحاف تحميل مصر وحدها، تبعات ما آلت إليه العلاقة الإسلامية - المسيحية في مطلع القرن الحادي والعشرين، فهذه العلاقة ذهبت ضحية نزعة متنامية لإقحام الدين في كل شاردة وواردة من الشأن السياسي، الأمر الذي أدى إلى بروز ذهنية عربية واحدة قائمة على سباق غير معلن للاستئثار laquo;بمغانمraquo; الدولة السياسية بذرائع طائفية. وهذا السباق أدى، بدوره، إلى تغليب شكل من أشكال الطبقية المذهبية على التعددية الدينية، فأصبحت المناداة بالحرمان الطائفي شعارا سياسيا دارجا في أكثر من دولة عربية واحدة.
ليس من المبالغة في شيء الاستنتاج بأن كل أنظمة الأكثريات الطائفية في العالم العربي فشلت في تعاملها مع أقلياتها، فبقدر ما فشلت دول الأكثرية الإسلامية في التعامل مع أقلياتها المسيحية، كذلك فشلت دولة الأكثرية المسيحية (لبنان) في التعامل مع أقليتها الإسلامية إبان عز نفوذ ما كان يسمى بـlaquo;المارونية السياسيةraquo;.
هذا الفشل الذريع في التعامل مع التنوع المعتقدي والفكري، أفرز على أرض الواقع ظاهرتين مستمرتين إلى اليوم: هجرة الأقليات إلى خارج أوطانها (كما يحصل في العراق ولبنان ومصر وفلسطين) أو توق إلى الانفصال عن laquo;النظامraquo; الأكثري (كما يحصل في جنوب السودان).
ومع اندثار عصر التوسع الإمبريالي المباشر، ساهم تراجع الاهتمام الغربي بمصير مسيحيي الشرق في استقواء أنظمة الأكثريات الطائفية عليهم، فوجد مسيحيو المشرق أنفسهم laquo;محشورينraquo; بين مطرقة فشل النظام الطائفي الأكثري في إقامة علاقة مواطنة عادية معهم - ومع كل أقلياته في الواقع - وسندان الغرب الذي لم يعد مستعدا، وربما غير راغب، في حماية الوجود المسيحي في الشرق الأوسط.
باختصار، حماية laquo;أهل الذمةraquo; هي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مسؤولية حكومات بلادهم، وهي مسؤولية لا تستوجبها متطلبات استقرار دولهم بقدر ما تفرضها مخاطر تفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه على صعيدين: أولهما فرضية تصوير الإسلام وكأنه دين يرفض التعايش مع الأديان السماوية الأخرى، وثانيهما احتمال التمهيد لصراع سني - شيعي تلوح بوادره منذ الآن في أفق المنطقة.