داود البصري
شكلت العودة المفاجئة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للعراق بعد غيبة استمرت أربعة أعوام قضى معظمها في مدينة ( قم ) الإيرانية قام خلالها ببعض التحركات و الزيارات السياسية الخاصة لتركيا و السعودية و سورية ولبنان مفاجأة لدوائر الرصد في العراق , رغم أن هذه العودة كانت من الأمور المعروفة سلفا منذ أن برز التيار الصدري كقوة برلمانية وشعبية كبرى يحسب لها حساب في الشارع الشيعي العراقي المنقسم على نفسه وسط صراع التيارات وخصوصا بعد تراجع دور و مكانة و أهمية و شعبية ونفوذ جماعة ( المجلس الأعلى للثورة الإسلامية ) منذ رحيل رئيسه السابق السيد عبد العزيز الحكيم ومجيء وريثه الشاب السيد عمار الحكيم الذي يمتلك بعض مواصفات المرونة السياسية و التحرك الإعلامي إلا أن انشقاق حركة بدر بزعامة جنرالها القديم وذئبها المعروف هادي العامري قد أعاد صياغة المشهد الشيعي العراقي , وعودة مقتدى الصدر لقلعته النجفية الخاصة قد جاءت بعد تشكيل الحكومة العراقية كما كان معلنا من قبل , ولكنها عودة أثارت عدداً من ردود الأفعال على صعيد القضية الجنائية الكبرى المشهرة بوجه مقتدى الصدر وهي قضية قتل وذبح الزعيم الشيعي السيد عبد المجيد الخوئي في التاسع من إبريل 2003 في أول ساعات سقوط نظام صدام في الحضرة العلوية في النجف وهي جريمة اكتملت كل عناصر الاتهام و الإدانة بها وصدرت بالفعل مذكرة توقيف قضائية بحق مقتدى الصدر لمسؤوليته الكاملة عن تلك الجريمة البشعة وحيث تؤكد جميع الشواهد والشهادات و القرائن بأن اللحظات الأخيرة في حياة الشهيد عبد المجيد الخوئي كانت أمام منزل مقتدى الذي لا يبعد أكثر من عشرين مترا عن الصحن العلوي حينما طالب الخوئي وهو مثخن بالجراح وضربات السكاكين من مقتدى شخصيا بالحماية و النصرة و المساعدة فكان رده لجماعته بأن يأخذوه بعيدا عن البيت ليتم الإجهاز النهائي عليه هناك وهي مأساة معروفة وشبيهة في تقديري بمصرع و مقتل سفير الإمام الحسين عليه السلام لأهل الكوفة ( مسلم بن عقيل ) الذي قتل بعد أن تفرق عنه أنصاره ليترك وحيدا لسيوف ابن زياد وجماعته الوقائع و المأساة متقاربة لحد كبير , و الغدر و الصلافة مستمرة كمتوالية حسابية عبر التاريخ رغم القرون و الأجيال !, و إصرار عائلة السيد الخوئي ممثلة بولي الدم وولده الشاب حيدر عبد المجيد الخوئي على تفعيل المتابعة القضائية ضد مقتدى الصدر قد يدخل الملف في متاهات مساومات سياسية كبرى خصوصا و إن وضعية مقتدى اليوم هي غير وضعيته بالأمس ! , فهو حاليا رقم سياسي طائفي صعب ومهما كانت درجة استقلال و نزاهة القضاء العراقي المفترضة في الوضع الراهن إلا أن هنالك محاذير وخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها و تشكل عقبة كأداء و حقيقية أمام مهمة إلقاء القبض على مقتدى و التحقيق معه وإرساله للمحاكمة فتلك الأهداف تبدو حاليا شبه خيالية وغير ممكنة التنفيذ وفقا لحسابات الواقع الميداني , وقبل الخوض في تفاصيل الموقف المعقد ينبغي العودة للملف التاريخي القريب لمطالبة آل الخوئي بالقصاص من مقتدى الصدر, و إليكم أصل الحكاية و تفرعاتها و مداخلاتها وهي قصة حافلة بكل ماهو غريب و عجيب و متحول وبصور نفاق عراقية خالدة ومعروفة و موثقة.
في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد عبد المجيد الخوئي العام 2004 قام كل من زعيم المؤتمر الوطني العراقي الدكتور أحمد الجلبي و زعيم حزب الدعوة وقتذاك إبراهيم الجعفري بزيارة مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في العاصمة البريطانية لندن لتقديم واجب العزاء لآل الخوئي , وهناك تعهد أحمد الجلبي للعائلة و بالحرف الواحد بضرورة ( تعليق ) مقتدى الصدر لقيامه و أتباعه بتنفيذ تلك الجريمة وقال لهم ( إنشاء الله سنعلقه على جريمته ) أما إبراهيم الجعفري فقد تعهد بدوره لآل الخوئي بضرورة تقديم مقتدى الصدر للمحاكمة القانونية و إنزال العقاب المناسب لمسؤوليته المباشرة عن تلك الجريمة!!! ولم ينس الجعفري وقتذاك أن يطلب من مؤسسة الخوئي نسخا من مقالاته المنشورة سابقا في مجلة ( النور ) الشهرية العائدة للمؤسسة لاستعمالها في سيرته الشخصية لأنه كان وقتها عضوا في مجلس الحكم و يتطلع لمناصب مستقبلية مهمة بعد الانتخابات التي كان يتم الإعداد لها,بعد أسابيع قليلة من تلك الزيارة تشكلت حكومة الدكتور إياد علاوي وأصبح غازي الياور رئيسا للجمهورية و إبراهيم الجعفري وروز نوري شاويس نوابا للرئيس وعاش العراق في ظروف أمنية صعبة مع ازدياد نشاط عصابات القاعدة و التكفيريين و تصاعد التوتر الطائفي وبروز جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر كقوة تحد كبرى أمام النظام العراقي الجديد الذي لم يوطد دعائمه بعد مع هيمنة عسكرية أميركية واضحة على عموم المشهد العراقي المتوتر , ثم نشب القتال بين حكومة علاوي والتيار الصدري وحيث أعيد ترتيب المواقف و المواقع فبرز أحمد الجلبي بصورة المدافع عن التيار الصدري الذي تعهد قبل أسابيع أمام عائلة الخوئي بأنه سيعلق قائده مقتدى وحيث كان الجلبي دائم التردد و الزيارة لمقتدى الصدر لكسب وده وأنصاره في حسابات سياسية مستقبلية وفي إحدى المرات تسبب أحمد الجلبي بفاجعة شخصية لعضوة مجلس الحكم السابقة السيدة سلامة الخفاجي حينما اغتيل ولدها الشاب وجرحت هي على يد القاعدة بعد عودتهم من زيارة مقتدى الصدر في النجف وقد حدثت تلك الجريمة في منطقة ( العطيفية ) المهم أن اندلاع نيران المواجهة بين الصدريين وحكومة علاوي قد حفل بلحظات تحول غريبة وعجيبة قد تثير الهواجس لمن يطلع على أسرارها.. ففي اللحظات الحاسمة لمعركة النجف العام 2004 حوصر مقتدى الصدر في الحضرة العلوية وكان قائد القوات العراقية المحاصرة له ينتظر أمرا عسكريا و سياسيا باقتحام الصحن الحيدري واعتقال أو قتل مقتدى الصدر وإنهاء المعركة ميدانيا وكان وزير الدفاع العراقي وقتها السيد حازم الشعلان وحيث اتصل به هاتفيا القائد الميداني لطلب أمر الهجوم النهائي وهنا حدثت المفاجأة الكبرى التي شلت وزير الدفاع العراقي حيث اتصل به على عجل الدكتور إياد علاوي رئيس الوزراء طالبا منه وقف الهجوم على النجف وعدم اعتقال أو قتل مقتدى الصدر استجابة لأوامر أميركية صريحة كانت تقتضي و تأمر بضرورة إنهاء معركة النجف وترك مقتدى الصدر لحال سبيله وعدم إنهاء ملفه كخطوة توازنية تضمن عدم انفراد جماعة المجلس الأعلى بالسيطرة على النجف بعد نهاية التيار الصدري ولكي يستمر الصراع الداخلي العراقي بصورة متوازنة مع عدم القدرة على الحسم النهائي لمصلحة أي طرف وهذا ماحصل فعلا ليتم تجميد الموقف و تتم الانتخابات أوائل العام 2005 وترحل حكومة علاوي و تقوم حكومة إبراهيم الجعفري صاحب التعهد السابق بتقديم الصدر للمحاكمة بشأن ملف السيد الخوئي وحيث غيرت السلطة من صورة كل التعهدات السابقة والتي كانت مجرد مواقف نفاق لامصداقية لها , فالجعفري بعد أن أصبح رئيسا للوزراء جاء معه صديقه ورفيقه في التعهد بالقصاص من مقتدى و ( تعليقه ) وهو أحمد الجلبي الذي أصبح نائبا لرئيس الوزراء وقاما معا بالتنكر لكل تعهداتهما السابقة بل وبطمس أي إمكانية لتقديم مقتدى الصدر للمحاكمة وإهالة التراب على ذلك الملف الجنائي المتورم بالوقائع و الأحداث.
وزيادة في التقرب و التكريم للتيار الصدري فقد خطا الجعفري خطوة كبرى وقتذاك في التقرب للصدريين من خلال سماحه ببناء ( براني السيد محمد صادق الصدر والد مقتدى ) و الذي تعود ملكيته أصلا لبيت ( ستة مني ) وللملا كميلة على وجه التحديد ليكون مرقدا ضخما للسيد محمد الصدر يحاكي مرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهذا ( البراني ) كان الصدر يستقبل فيه طلابه و مريديه وتحول اليوم بفضل إبراهيم الجعفري لمزار كبير ومهم في النجف وهو يقع في المثلث المحصور بين شارع الصادق وشارع الرسول ومرقد الإمام علي ولايبعد سوى نحو عشرين مترا عن الحضرة العلوية وهو نفس المكان الذي قطعت أمامه و بأوامر صريحة من مقتدى الصدر أوصال السيد عبد المجيد الخوئي وبعض من مرافقيه في ذك اليوم الساخن , وقد أوفى الجعفري بتعهداته لآل الخوئي بطريقة عكسية إذ تم تكريم المتهم بالقتل و التنكر لحقوق و مطالبات أولياء الدم فانظروا إلى ماتفعله المصالح في أهل المبادئ من الأدعياء , ولما سئل الجعفري عن سبب تصرفه في تكريم مقتدى بهذه الصورة الصارخة ? أجاب بصراحة أن المجلس الأعلى قد استولى على أرض بلدية النجف وشيد ضريحا لزعيمه السابق السيد محمد باقر الحكيم وهذا المكان هو مقابل لذلك المكان أي واحدة بواحدة.
أما بالنسبة لأحمد الجلبي ونفاقه المستمر للتيار الصدري و تنكره لوعوده السابقة فحينما سئل عن موقفه المتغير لم يتردد عن القول بأن ( التيار الصدري قد بات اليوم تيارا شعبيا وقويا ومؤثرا لا يمكن مقاومته ) وهكذا الدنيا مصالح وحسابات لا مكان للمبادئ ولا لتعهدات الرجال فيها مكان للأسف?.. إنها نفس قصة الغدر بالإمام الحسين عليه السلام تتكرر بطريقة عصرية لا تختلف في حيثياتها عن غدر الماضي.
متغيرات ومفاجآت...
بعد رحيل الجعفري عن الحكومة واستلام نوري المالكي لسدة السلطة في العام 2006 حدثت متغيرات تمثلت في كون المالكي من المناوئين للتيار الصدري ولممارسات جيش المهدي ولأساليبهم الإرهابية التي تحط من قدر و مكانة السلطة وتقف بالضد من خطط الحكومة , والمالكي من المعروفين سابقا بكراهيتهم لذلك التيار ووصفه لهم بأقذع الأوصاف , لذلك كان مصمما على المواجهة وإبراز الأوراق التي تضعف من سطوة الصدريين وكان مصمما في البداية على تفعيل الملف القانوني بجريمة إغتيال عبد المجيد الخوئي , وقد نصح الإيرانيون مقتدى الصدر بضرورة مغادرة العراق على وجه السرعة لأن المالكي قد يعتقله في أي لحظة وفعلا فقد تم ترتيب نقله لإيران وبذريعة توجهه لإكمال دراسته الفقهية العليا فيما توجه المالكي بتنفيذ عملية ( صولة الفرسان ) عام 2008 والتي كسرت ظهر الجماعات المسلحة ومنها جيش المهدي إضافة لسعيه لبسط هيمنة الدولة على المدن العراقية , واستمرت الاتصالات والمفاوضات والتي عمد الصدر خلالها للتبرؤ من ممارسات ( عصائب أهل الحق) الإرهابية وبما مهد بعد الانتخابات الأخيرة لتطبيع المواقف خصوصا بعد تقدم التيار الصدري في الإنتخابات وحصوله على أربعين مقعدا في مجلس النواب وتحوله لقوة ضغط قوية للتحالف الشيعي , أما مسألة تقديم مقتدى الصدر للمحاكمة وتفعيل ملف قتل السيد عبد المجيد الخوئي فهو أمر لايبدو أبدا أنه قيد التحقيق , فالجعفري هو اليوم رئيس التحالف الشيعي وهو أحد أنصار ومعاضدي التيار الصدري و المالكي في حالة وفاق معهم كثمن واجب الدفع للحفاظ على كرسيه, أما دم الشهيد الخوئي المهدور فقد تآمر عليه أهل الحل والعقد في حكومة الطوائف و من الصعب بل من المستحيل على القضاء العراقي مخالفة أهل السياسة وزعماء الطوائف, فلا قيمة لأي تعهدات أمام صراع المصالح الأنانية .. وتلك هي الحقيقة للأسف..
التعليقات