زهير الحارثي


الحقيقة أن من يتأمل التحولات والمتغيرات الأخيرة على المسرح الدولي- وتحديداً في عالمنا العربي- يرى أن معاهدات واتفاقات حقوق الإنسان كانت مجرد شعارات ولكنها مع تزايد انتهاكات حقوق الإنسان باطراد في شتى بقاع العالم، غدت المبادئ من دائرة التنظير الشفهي إلى التطبيق العملي

أحداث تونس الدراماتيكية ، والانفجار الشعبي ، وانتفاضة الشارع ، علامات صحوة للعقل العربي . رغم بعد التداعيات من مظاهر الانفلات الأمني وعصابات النهب والسلب، إلا أن هذه الأمور طبيعية وتحدث في مناخات قلقة كالتي تعيشها تونس الآن، ثم لا تلبث أن تستقر الأوضاع وتعود كما كانت.

ما جرى في تونس جاء ليدشن لحظة تاريخية غير مسبوقة مؤكدا أن المواطن العربي لم تمت إرادته بعد. وان القمع والظلم والاستبداد لا بد له من نهاية وان طال به الزمن. هذه نتيجة طبيعية طالما ان الشعب توحدت رؤيته على قضية واحدة يحارب من اجلها. أشعل شاب عاطل نفسه، فأشعل الاحتجاجات في كل تونس، ليسقط رئيس الدولة، ولعل السر هنا يكمن بالتأكيد في إرادة الشعوب.

وحين الحديث عن الإرادة، يبزغ تساؤل عما إذا كانت تعني نشاطاً عقلياً أم استجابة بدنية. لقد كانت هذه العلاقة بين العقل (نشاط العقل) والجسم (حركة الجسم) مثار جدل ونقاش عبر التاريخ بين كبار الفلاسفة وعلماء النفس، وكان لكل واحد منهم نظرته الخاصة إزاء هذه العلاقة. فسبينوزا اعتقد أن كليهما شيء واحد، فأي نشاط عقلي تتبعه حركة بدنية، لكن التحليل يقتضي ان نرى كل واحد منهما ضمن خاصته، فكرية كانت أم فيزيائية. وكان (شوبنهور)، وفي كتابه (العالم كإرادة وفكرة) تحديداً، أثار هذه النقطة، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى أن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله، فالعقل قد يتعب، أما الإرادة فإنها تعمل حتى في حالة النوم.

أما ديكارت فكان يرى أن الجسم خلاف العقل، رغم انه كان يدرك أن ثمة تناقضاً في طرحه، ولكن ربما قصد من ذلك أن لكل منهما دوراً خاصاً به يقوم به في لحظة معينة لرغبة معينة، وجاء كامبل ليقول إن فعل الإرادة هو الفكرة، ولكن باعتقاده انه لا يمكن أن تتمثل من دون الحركة الجسمية (بمفهومها الشامل)، التي تحاول أن تحقق المراد أو المقصود منها.

على أي حال ، إن تحليلاً كهذا يكشف جزءاً أو حقيقة كائنة (ماثلة) في حياتنا المعيشة. فالإرادة (الفردية) تقود في أغلب الأحيان إلى إرادة جماعية أو كأنها (فعل وردة فعل)، وحتى لا نخوض في المتاهات الفلسفية، نرى أن مثالاً كحقوق الإنسان (إرادة) في عالمنا العربي، وإثارته كموضوع، يؤدي غالباً إلى تفاعل اجتماعي ودولي (إرادة جماعية، وبالتالي حركات بدنية تتمثل في المظاهرات كما حدث في تونس ). وتفاعل كهذا له ما يبرره، لمجتمعات ما زالت تعاني من البطالة والقمع والاضطهاد، وتفتقر عملياً إلى معنى السيادة والمواطنة ، وتعاني بالتأكيد من الغياب التام لمفاهيم الديمقراطية، وافتقادها لجانب كبير من ضمانات حقوق الإنسان.

والحقيقة أن من يتأمل التحولات والمتغيرات الأخيرة على المسرح الدولي، وتحديداً في عالمنا العربي، يرى أن معاهدات واتفاقات حقوق الإنسان كانت مجرد شعارات ولكنها مع تزايد انتهاكات حقوق الإنسان باطراد في شتى بقاع العالم غدت المبادئ من دائرة التنظير الشفهي إلى التطبيق العملي.

باتت تشكل تلك المبادئ في وقتنا الراهن مصدراً جديداً للشرعية لأي نظام، ومع أن بعض الحكومات اعتادت أن تفعل ما تشاء داخل اختصاصها القانوني على اعتبار أن مبدأ السيادة الوطنية يعطي لها هذا الحق، وفي هذا بعض الصحة، إلا أن الحقيقة الماثلة للعيان ، ترى في أن الحكومة (أيّ حكومة)، لم تعد كما كانت سابقا، حيث يقتصر دورها في التقيد بالمواثيق والقوانين والمعاهدات الدولية، أما في شأنها الداخلي، فلها كل الحق أن تفعل ما تشاء كما فعل السابقون (شاه إيران و عيدي أمين حاكم أوغندا و انستاسيو في نيكاراجوا و صدام حسين في العراق ومنغستو هيلي ماريام وهيلي سلاسي في اثيوبيا وروبرت موغابي والرئيس الاريتري اسياس افورقي وزين العابدين في تونس)، وإنما صارت ملزمة لكل حكومة بالتقيد بالمواثيق والمبادئ حتى في نطاق اختصاصها الوطني. وإن لم تلتزم فإنها معرضة للعقوبة من قبل المجتمع الدولي، هذا إن لم يتطور الأمر لتطبيق الفصل السابع الذي يسمح باستخدام القوة.

طبعا من النادر جدا أن يخلو بلد من البلدان من انتهاكات حقوق الإنسان بما فيها البلدان المتقدمة وتلك التي حققت طفرات نوعية في تنميتها الاقتصادية ومؤسساتها الدستورية، وأشاعت الحريات بمختلف مضامينها وقد تتفاوت المعايير في نسب احترام وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان من بلد إلى آخر، إلا أن الدول النامية كان لها النصيب الأكبر من تلك الممارسات، ولعل من يطلع على التقارير الدولية يجد فيها انتقادات لكل الحكومات، التي تنتهك حقوق الإنسان وتمارس ضد مواطنيها أساليب القمع والتعذيب الوحشي والقتل والسجن وتصادر حرياتهم في التعبير.

ولعل ما يميز الديمقراطية في هذا السياق أنها تأتي لتكون ضمانة لحماية حقوق الإنسان، فالديمقراطية (سمّها ما شئت، فالعبرة بالمضمون والمحتوى)، تحترم ممارسة ورعاية حقوق الإنسان. بمعنى آخر أنها تحفز النشاط العقلي (الإرادة) وتفسح المجال أمام الاستجابة البدنية (المظاهرات السلمية والتنديد والاحتجاج)، ضمن آلية معينة ومحددة يحددها وينظمها القانون دون تعسف أو محاباة لأي طرف.

إن المناداة بحماية حقوق الإنسان، باتت قانوناً وواقعاً بعدما كانت شعاراً مثالياً قاصراً على المجتمعات المتقدمة، والحجج التي نسمعها بين الفينة والأخرى من بعض الدول حول معايير حقوق الإنسان لا تلبث أن تتلاشى عندما نجد (مرجعياتها) أديانا كانت أم أعرافاً، تحتوي على هذه المبادئ، بل وتؤكد على وجوب تطبيقها.

لا ريب في أن حماية حقوق الإنسان في طريقها إلى مرحلة جديدة يصار فيها إلى معنى الالتزام، وهذا يؤكد حقيقة أن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، فليس الدم الذي يجري في الجسم هو من يدفعه، بل هي الإرادة من تدفعه لتطبيقها على أرض الواقع وما جرى في تونس إشارة ملفتة نحو التحرر، وان جماعية القرار الشعبي لا بد وأن تحدث تحولا جوهريا تنعدم فيه المصلحة الذاتية أو الحزبية أو الطائفية وذلك لهدف أسمى هو تحقيق العدل والمساواة واحترام القانون تحت شعار دولة المواطنة.