عبدالله زمان

مصيبة من لا يريد أن يتعلم من التجارب السابقة، إذ يقول المثل laquo;ما يجَرّب المجرَّب إلاّ يللي عقله مخرَّبraquo;. فأميركا لا يمكن لها أن تكون مخلصة لأي دولة أو سلطة ما، حتى لو مستوى الحلف معها استراتيجي أو تأسيسي. ومثال على ذلك هو شاه إيران المخلوع والذي تنصلت منه أميركا ولفظته فور هروبه من إيران حتى مات مقبوراً في مصر. والمثال الحي أمامنا اليوم على أن أميركا laquo;تأخذ العملاء لحماً وترميهم عظماًraquo; هو الرئيس التونسي. فبعد الدعم الأميركي والأوروبي لظلمه واستبداده، تركته شريداً على ظهر الطائرة في الهواء ليلاقي مصيره بنفسه.
اللافت بأن أميركا لم تلفظه فحسب، بل تبنت ما آلت إليه الأمور من طرد الرئيس العميل قديماً والمهمل حالياً. إذ أشاد الرئيس الأميركي بالثورة التونسية والإطاحة بالرئيس الهارب وكأن أميركا لم تكن شريكةً في ذلك التاريخ الأسود، حتى زادت هي والدول التي كانت تدعم laquo;بن عليraquo; باستعدادها لمساعدة الشعب التونسي على إجراء انتخابات laquo;نزيهةraquo; على المقاس الأميركي طبعاً. ما لفت نظري هو ريبة الثناء الأميركي على هذه الثورة ووصفها بالشُجاعة وبالكرامة التونسية.
مفاد الخطاب الأميركي هو أمران: الأول بأن أميركا تظهر الدعم للحركات الشعبية في البلدان ضد السلطة الحاكمة، والأمر الثاني هو الإيهام بأنها تُقر بالنتيجة الشعبية التي تولدها تلك التحركات. السؤال الآن، هل فعلاً أميركا هي كذلك، وهل السياسة الأميركية تنفذ ما تقول أم انها تبيع الكلام السياسي لمجرد الاستهلاك الإعلامي وفي الخفاء الأمر مختلف؟
تعالوا نستعرض المشهد السياسي في غزة قبل أعوام عدّة. فهناك تم إجراء انتخابات شعبية نزيهة، ليصبح الفوز من نصيب المجاهدين في laquo;حماسraquo; على عكس ما تمنت القوى الصهيو-أميركية. وعلى ضوء ذلك، ترأس المجاهد إسماعيل هنية الحكومة بشكل دستوري. إلاّ أن النتيجة جعلت السلوك الأميركي على العكس تماماً لمعاني ومقاصد الخطاب الأخير حول تونس. وعدم قبول أميركا ومن ورائها ربيبتها الصهيونية بنتائج الانتخابات التي كانت تدعم المقاومة الشرعية للشعب الفلسطيني، أدّى بها أن تُؤلّب هذا الطرف على ذاك لتُدخل فلسطين المحتلة في صراع انقسامي داخلي إلى يومنا هذا.
المشهد نفسه تقريباً يتكرر في لبنان. فالمعارضة اللبنانية دخلت الانتخابات إلاّ أن ترجيح كفّة الأغلبية النيابية في تسمية رئيس الحكومة كان واقعياً لصالح النفوذ الأميركي في المنطقة، ومن أبرز ملامح هذا السلوك هو التعاون مع الفريق الحاكم بشكل سافر في تدبير شؤون الدولة. هنا قامت المعارضة بشكل دستوي وقانوني سليم في تقديم استقالتها تمهيداً لتشكيل حكومة جديدة تعكس الرغبة الشعبية الحقيقية وليس الرغبة الأميركية. هنا ثارت الثائرة الأميركية لأن نتيجة هذا الفعل ستؤدي لانحسار نفوذها في لبنان والحد من تدخلاتها في الشأن اللبناني وتحديداً محاربة المقاومة ضد الكيان الصهيوني.
ما يجري في لبنان هذه الأيام هو صراع لبناني وخارجي بامتياز، فالمعارضة اللبنانية تملك قرارها الوطني في تدابير الشؤون السياسية في البلاد، بينما فريق المولاة يستجدي الدعم الدولي والخارجي لتسيير أموره من الجانب الأضيق وتطبيق أجندات تلك الدول ومن أوسع الأبواب.
نعود لنسأل، ماذا تريد أميركا من الشرق الأوسط؟ ولجواب ذلك، يجب علينا معرفة أهداف الوجود والهيمنة الأميركية في المنطقة أولاً. فحسب تشخيصي، هما هدفان رئيسيان: الأول هو الهدف الاقتصادي وما يترتب عليه، والهدف الثاني هو غطاء أمني طويل المدى للكيان الصهيوني اللقيط. ولشرح تداعيات هذين السببين نحتاج أكثر من مقال، ولكن أسردهما مختصراً على شكل نقاط:
bull; الاستنزاف الاقتصادي لثروات الدول العربية وجعلها دائماً في حاجة إلى القوة الأميركية التي فَرَضَت عقودها ومعاهداتها الأمنية العالية الثمن.
bull; حتى يكون لتلك العقود والمعاهدات معنى، فأميركا تعمل على خلق عدو وهمي في كل مرّة للبلدان الشرق أوسطية.
bull; أميركا لا تهتم فعلاً لقرار الشعوب العربية والمسلمة، وستنقلب على عقبيها بمجرد أن يتم إعلان الدولة الإسلامية الجديدة في تونس مثلاً.
bull; وجود الدولة الصهيونية في خاصرة دول الشرق الأوسط هو صمام أمان لتنفيذ الأجندة الأميركية في حال تنامت القوة العسكرية والتنموية لأي دولة مسلمة.
لنبحث من جديد، ماذا ستقول أميركا لو تحرك شعب آخر لإسقاط سلطته الظالمة، واستعادة هويته العربية والإسلامية النضالية ضد الكيان الصهيوني. فهل سيخرج الرئيس أوباما ليبارك هذا النضال، أم سيتحقق ما تم تسريبه من مخطط إسرائيلي وأميركي مشترك لدعم السلطة في حال تكرر المشروع التونسي هناك؟