محمد خليفة

رغم مرور 65 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، فإنها لا تزال تؤثر في نفوس الكثيرين ممن لم يعيشوا ويلاتها ويعانوا ظلمات المآسي التي عاشها الملايين من البشر، كما لاتزال رموزها وشخوصها وتكتلاتها السياسية وأحداثها محط الاهتمام والبحث حتى بعد اختفاء أولئك الذين اتخذوا قرارات الحرب أو شاركوا في صنع السلام . فقد أوردت وسائل الإعلام البلغارية أن القاضية زدرافكا داميانوفا طلبت إعفاءها من حمل الرقم الشخصي الذي يعرف بالرقم الوطني الموحد، ورفعت دعوى على السلطات البلغارية لإجبارها على حمل أرقام تسيء الى كرامتها وإنسانيتها، وأوضحت أنها ضد إلحاق اسم المواطن بسلسلة أرقام تحل محل الاسم والشخصية، غير أنها لا تعارض تسجيل البيانات الخاصة بتاريخ الولادة ومكان السكن وغيرها .

وأعادت الى الأذهان كيف أن محكمة نورنبورغ التي شكلت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة قادة ألمانيا الهتلرية، قررت اعتبار ترقيم الإنسان جريمة وإساءة للكرامة والإنسانية، بعدما كانت معتقلات وسجون هتلر مكتظة بالسجناء الذين يحملون أرقاماً وليس أسماء .

وفي ألمانيا، تزامن ذلك مع نشر معلومات تكشف للمرة الأولى عن رودولف هس نائب هتلر في الحزب النازي الذي كان من أبرز الرموز الألمانية، حيث ذكر أن هتلر كان دائماً حائطاً شفافاً لا يمكن أن يتعداه الاقتراب منه، وكان يتميز بحاسة سادسة قوية تمكنه من الرؤية البعيدة والعميقة، وكان نوعاً من العبقرية التي عادة ما تكون نادرة، وكان عنيداً فوق التصور، وقد تبنى في منهجه النظريات السائدة آنذاك حول الأجناس ومواقع الدول ومجالاتها الحيوية وتفوّق الجنس الآري، وهو السحر الذي حرك قلب وعقل هتلر ودفعه إلى وضع الخطوط الأولى لكتابه (كفاحي) .

وقبيل الحرب العالمية الثانية، تم تشكيل مجلس حرب محدود لاستعادة الأراضي الألمانية التي استؤصلت بموجب قرارات مؤتمر فرساي الذي فرض على برلين نزع السلاح ودفع تعويضات هائلة، وحينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، استولى الجيش الألماني على فرنسا وبلجيكا وهولندا، وفي 1940 التقى موسوليني هتلر ووزير خارجيته في ميونيخ وطرح عليهما أن بريطانيا سترحب بالسلام مع ألمانيا، غير أن هتلر لاذ بالصمت . وعقب اعتزام ونستون تشرتشل مواصلة الحرب، ضربت ألمانيا سفينة حربية بريطانية كانت ترابط في ميناء وهران بشمالي إفريقيا لكسر غرور تشرتشل . وأثناء لقاء ستالين مع اللورد فربروك في موسكو طالبه بإعدام هس لكونه مجرم حرب، وبقي هس أربع سنوات في سجنه وأصيب خلالها بفقدان الذاكرة . وفي 9 أكتوبر 1945 تم نقله إلى ألمانيا بالطائرة، ورأى ألمانيا راكعة جريحة كأنها تبكي ونورمبرغ منكسة الرأس، وسقطت عيناه على المدينة التي تضم آثاراً من العصور الوسطى حيث تركت القنابل حفراً سوداً في كل جدار ورائحة البارود والموت والضياع وآلاف الضحايا تحت الصخور، وكانت الشوارع خالية إلا من بعض البشر الذين يعيشون تحت الأنقاض، فكاد يختنق من عمق المأساة والمرارة واليأس، ومع ذلك لم يشعر بالألم لأنه كان يؤمن بنظريات كارل هاوسهوفر حول العلاقة بين طبيعة الأرض والتطورات السياسية التي يتداخل فيها التاريخ والجغرافيا .

إن كل حدث من أحداث التاريخ إنما جرى وفقاً لمقتضيات وتباين لمفاهيم الوجود المأساوي للإنسان، الوجود والفرد، التناقض، الذاتية، القلق واليأس، ومن هنا فالتاريخ تطور ونمو لمنطق باطن، ولم تكن تلك الشخصيات التي خاضت الحروب غير أدوات التحول في رواية الغابات المظلمة للمجتمع بزيفه وبريقه وضلاله ومأساة الإنسان في عصره بل مأساته في جميع العصور بدمائها وأوحالها وبكل ما تنطوي عليه من بشاعة ودمامة وأحلام ورؤى شيطانية أو جهنمية عندما تسيطر على الإنسان أو تتحكم به من دون أن يدرك حالة اللاوعي والسقوط الكلي لمبدأ الفعل، وأن الغاية من الحروب ليست تحديد مثل أعلى للكمال من غير الممكن الوصول إليه، بل فهم الواقع لإعادة بنائه ديالكتيكياً، ومعرفة اللوحات السود منه لفرط ما تنطوي عليه من تشاؤم وشطحات الجنون والسيريالية الخالصة منه . ومن هنا فإن الأخلاق مهمتها في الحروب أن تشاهد لا أن تحكم، وكان يؤمن بتطبيق النظرية الديالكتيكية في الحرب كضرورة لا يمكن التخلص منها مادام السلب هو أساس التحقق وخاصية رئيسة للأفكار والأمور الشاملة، وما التاريخ الإنساني إلا خلاصة التحققات العينية للسلب . وبهذا المعنى لا حاضر ممكن غير ذلك الذي يقوم على ماضٍ حاسم . ولا ماضي ممكن غير ذلك الذي يكون أساساً لحاضر بعد التغلب عليه، وبهذا يتم التوفيق بين فكرة الحرب والحرية وفكرة الضرورة وذلك بواسطة فكرة المعقولية، ldquo;السلبrdquo;، فالأفعال المعقولة حرة لأنها صادرة عن الذات، وضرورة لأنها صادرة عن مقتضيات العقل والحرية وحب تراب الوطن والمبادئ المتعالية من حيث الاتجاهات والفعالية اللامتناهية من أجل الفضيلة والحقيقة والحرية والكرامة الإنسانية المرتبطة بمجموع العالم من الناحية الواقعية أو المثالية .

الحرب تمثل نغمة النشاز في الواقع الإنساني وتؤجج السعير الملتهب وتنثر سحب المقت والكراهية وتشوه الصورة الشمولية للمجتمعات وتغلغل قانون المحنة في مفاصل الوجود، وتودي بالإنسان بوصفه كائناً خاضعاً لعادات القطيع لأزمان طويلة كما ذكرت القاضية داميانوفا أن ترقيم الإنسان جريمة حينما تم تطبيقه أثناء الحرب العالمية الثانية على المعتقلين على اعتبار أنهم كانوا يعاملون كالقطيع وليسوا بشراً . وكفى بالحرب واعظاً .