نظام ومستقبل لبنان

رضوان السيد

الاتحاد الأماراتية


إذا قلنا إنّ الوضع بلبنان مُخيفٌ، فقد يقال إنّ هذه ليست المرة الأولى التي يقالُ فيها هذا الكلام، ومع ذلك فما يزال الوضع مقبولاً بعد حروبٍ ونزاعات توالتْ على مدى أربعين عاماً. وعلى فرض أنّ الوضع بلبنان كان خطِراً من قبل؛ فإنّ الخطر الذي نواجهه ويواجهه البلد ونظامه هذه المرة من نوعٍ مختلف. فقد كنا نقول عن الوضع إنه خطِرٌ في العقود الماضية، عندما تتعرض البلاد لأحد ثلاثة أمور: حرب إسرائيلية، أو صراع داخلي عنيف يكثر فيه القتلى والجرحى، أو حدوث تأزُّم بداخل النظام يستحيل معه انتخاب رئيسٍ للجمهورية أو رئيس للحكومة، وقد مَرَّ لبنان بالفعل بالأخطار الثلاثة، واستطاع الخروج منها بحمد الله، دون أن ينالَ ذلك من النظام أو من الدولة في الظاهر.
أمّا ما يحدث أو يمكن أن يحدث هذه المرة فهو تحولٌ خطيرٌ لأننا لم نجرِّبْه من قبل. والقابليةُ للحدوث ناجمة عن ضعف المناعة، الناجمة عن الانتهاكات التي نزلت بالدولة والنظام من جانب quot;حزب اللهquot; وحلفائه. فقد سيطر السوريون لقُرابة ثلاثة عقود، تحكموا خلالها بنظام الدولة من خلال أكثرياتٍ مصطَنعَةٍ في مجلس النواب، وأُخرى مصنوعة في مجلس الوزراء، وهكذا ما كانت الانتخابات حرة، وما ظهر في الحكومات ومجالس الوزراء ما كان حتّى بحسب نتائجها. ثم أضافوا إلى فضائلهم تُجاه دولة لبنان ونظامه: استنساخ التجربة السورية ذاتها في لبنان من خلال التمديد لرؤساء الجمهورية؛ فعلوا ذلك مع الهراوي، ثم مع لحود.


وخلال الاستلحاق السوري للنظام، كان السوريون قد رعوا quot;حزب اللهquot; وكبّروه باعتباره حارس الجبهة مع إسرائيل، فلمّا قُتل رفيق الحريري، وأُخرجوا من لبنان، انتقل عمل quot;حزب اللهquot; من الجبهة إلى الداخل فاخترق قلب النظام، وأقام في ذلك القلب دويلته، بعد أن كان قد سيطر على مناطق داخل أرض الوطن خارج نطاق الجبهة مع إسرائيل. ونحن نعلم أنّ عام 2005 وما بعده شهد تصاعدُ التجاذُبات في المنطقة، وصارت سوريا والحزب جزءاً من جبهة ضد أميركا وإسرائيل. وهكذا نصب الحزب معسكراته: على الحدود مع إسرائيل من جهة، وعلى حدود السراي الحكومي في الدولة اللبنانية. وبعد حرب عام 2006 ما عادت هناك جبهة مع إسرائيل، وصارت الجبهة الوحيدة التي أقامها الحزب في مواجهة ما تبقّى من النظام اللبناني. وقد أقفل الحزب وحلفاؤه مجلس النواب لأكثر من سنةٍ ونصف لأنّ الأكثرية فيه ما كانت من نصيبهم. وعندما عجزوا- رغم استقالة وزرائهم- عن إسقاط الحكومة اللبنانية، دخلوا بسلاحهم إلى بيروت، ونظّموا اشتباكاتٍ طائفية بالمناطق الشيعية السنية المختلطة، واضطروا قوى الأكثرية للذهاب إلى الدوحة بقطر، حيث جرى توقيع اتفاقٍ لصالحهم، ومع ذلك ما نفّذوا أياً من بنوده، وظلّوا منذ أواخر عام 2008 يهددون ويمارسون الإرهاب بالسلاح بالداخل إلى ما قبل ثلاثة أيام. وخلال ذلك تشكّلت حكومتان عطّلوا أعمالهما، وجدت انتخاباتٌ نيابيةٌ انهزموا فيها فتجاوزوا بسلاحهم نتائجها.
وقبل ستة أشهرٍ أو يزيد، جاء الملك عبد الله بن عبد العزيز صحبة الرئيس بشار الأسد إلى لبنان، للتعاون على فرض الأمن والاستقرار، وتذليل العقبة المتمثِّلة بالمحكمة الدولية والتي وقف كلٌّ من سوريا والحزب ضدّها منذ البداية، بحجة الخوف من أن تتوجَّه ضِدَّهما أو ضدَّ أحدهما بالاتهام باغتيال الحريري ورفاقه بين عامي 2005 و2007. وكان سعد الحريري وقوى 14 آذار المتبقية (بعد أن غادرها جنبلاط باتجاه المعارضة) يريد أن يحول دون الفتنة الشيعية السنية، ودون استمرار ارتهان الدولة والمؤسَّسات؛ عن طريق التنازُل في مسألة المحكمة، في مقابل عودة البلاد إلى الوضع الدستوري والطبيعي. إنما بعد مفاوضات استمرت خمسة أشهر، أعلن الطرف السعودي عن الخروج من التفاهم مع سوريا، لأن السوريين (وحزب الله) ما كانوا مستعدين للاستجابة لشيء فيما يتعلق بالدولة ومؤسساتها وسلاح الحزب الداخلي في مقابل التنازل في مسائل المحكمة. وعندما قال السعوديون ذلك غضب السوريون، واستقال وزراء المعارضة من حكومة الحريري وأسقطوها. وكان على رئيس الجمهورية أن ينظم استشارات نيابية لتشكيل حكومة جديدة، وتدخل الوسطاء العرب والأتراك لتلطيف الأجواء، واندفع الحزب وحلفاؤه مرة أُخرى باتجاه الشارع للإرعاب عندما كانوا خائفين من أن تأتي نتيجة الاستشارات لغير صالحهم. ثم جرى الضغط على جنبلاط ونوابه، وتجددت آمالهم في الحصول على أكثرية في الاستشارات بنائب أو نائبين؛ فرفضوا الوساطات، وعاد الأسد مصمماً على إقصاء الحريري عن رئاسة الحكومة، وهو الفائز في الانتخابات وضمن الأكثرية السنية، لصالح كرامي الساقط في تلك الانتخابات!
لماذا هذه التفاصيل الكثيرة، والعودة للقول إن الوضْعَ في خَطَر؟ يقول المطمئنون: وماذا لو شكلوا حكومة لون واحد بأكثرية صوت أو صوتين، فقد تشكلت حكومات كثيرة أيام السوريين وبنفس الطريقة؟ الواقع أنّ الأمر هذه المرة غيره في السنوات والعقود السابقة. فبعض القوى الإقليمية داخلة هذه المرة بالمباشر وبالتفاصيل، والحزب -حزبُها- هو القوة الرئيسية وليس السوريين. وهؤلاء يقولون من جهة إنهم يريدون هزيمة أميركا في لبنان، وقوى الأكثرية في نظرهم عملاء لأميركا، والحزب نفسه وحليفه الجنرال عون لا يقولان لا بالدستور ولا بالنظام اللبناني. لذلك سيكون كرامي أو غيره إن تشكلت حكومتهم بمثابة شهود الزور، لأنهم لا يملكون جذوراً شعبية، وهم يعتمدون على قوة الحزب وسلاحه، وعلى الإرادة السورية. وقد يعني ذلك أن لا يسمحوا بعودة أحدٍ لا يعجبهم إلى رئاسة مجلس الوزراء، فيغيّرون النظام؛ بينما كان السوريون مكتفين بإفساده وتطويعه. وهم يستطيعون في كلّ وقتٍ أن يُخيفوا جنبلاط وغيره؛ وإن لم يخف هؤلاء، فسيستخدمون القوة الناعمة أو الخشنة في تشكيل الحكومات ذات اللون الواحد. وهم لا يملكون فكرةً عن أعراف النظام وقوانينه، وإن عرفوها فهم لا يؤمنون بها؛ وهم لم يخضعوا لها على أي حالٍ منذ ثلاثة عقودٍ وأكثر إلاّ في الشكل دون المضمون.
إنها مسافة يومين أو ثلاثة، لكي يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر؛ quot;والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمونquot;.

الحريري مستمر وينتصر

احمد عياش

النهار اللبنانية

قبل أيام كان الحدث اعلان الرئيس سعد الحريري ترشحه لرئاسة الحكومة. أما بعد يومين فسيكون الحدث انتصاره في الاستشارات النيابية الملزمة لتكليفه مجدداً تشكيل الحكومة المقبلة اذا لم يجر تأجيل الاستشارات لسبب أو آخر. كاتب هذه السطور يوم اجراء الانتخابات النيابية عام 2009 كتب مقالاً يدعو الى التطلع الى ما بعد النتائج التي ستنتهي بانتصار كبير لقوى 14 آذار. وهكذا كان على رغم ان فريق 8 آذار يعتقد انه ضامن الفوز مثلما هو اليوم عشية الاستشارات النيابية. الامر لا يتعلق بخبرة في قراءة الابراج أو الكف أو الفنجان، إنما هو آتٍ من اختبارات quot;ثورة الأرزquot; التي ما زالت تتوالى منذ عام 2005. أما الرئيس الحريري ومنذ ان حمل الراية بعد استشهاد والده في 14 شباط 2005 أثبت جدارة في تحمل المسؤوليات فكانت كفايته مع قادة الثورة سبيلاً الى اخراج الجيش السوري من لبنان وتهيئة الشروط لقيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان واحراز انتصارين انتخابيين متتالين ووضع أسس حكم لبنان نفسه بنفسه وجعل هذا الوطن يجلس مرة أخرى الى طاولة العالم ولا يكون فوقها. ولذا فإن انتصاراً جديداً في تشكيل الحكومة المقبلة سيكون طبيعياً.
رب قائل ان انعطافة أحد قادة هذه الثورة منذ صيف 2008 ألا وهو رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أحدثت خللاً يكاد أن يوصف بأنه استراتيجي. بالتأكيد ان التأثير كبير جداً لهذه الانعطافة. لكن يجب التذكير بأن الانتصار النيابي لـ14 آذار في 2009 جاء بعد التحول في موقف جنبلاط. وبالتالي فإن ساعة الحقيقة في الاستشارات النيابية غداً وبعد غد لها وقعها التي ستطغى فيها دقات الضمير على دقات المخاوف.
ما هي هذه المخاوف؟ سرت في الايام الاخيرة شائعات ان غضبة جديدة لـquot;حزب اللهquot; في طريقها الى المسرح الأمني. وترافق ذلك مع عرض أزياء ليس من عالم الاناقة النسائية بل من آخر صيحات الحزب تتمثل بمئات الشباب في معاطف سود من دون أسلحتهم. ولعلها مستنسخة من تقليعة الفاشية الايطالية أيام موسوليني وقمصانها السود في النصف الاول من القرن الماضي. ثم كانت أنباء أو شائعات عن تحرك ميداني في بعض مناطق جبل لبنان. كل ذلك كي تستيقظ مجدداً كوابيس غزوة 7 أيار 2008 التي قادها quot;حزب اللهquot; ونال بفضلها جائزة اتفاق الدوحة.
هل هذه هي فعلاً مبررات قلق جنبلاط لكي يغيّر موقفه من تأييد تكليف الحريري مجدداً؟ الجواب ربما نعم وربما لا. لكن اذا كانت فعلاً هذه هي مخاوف الزعيم الاشتراكي فهو حكم على نفسه بأن يكون تحت رحمة الخوف الذي يبثه الحزب ومن ورائه دمشق وطهران، عند الطلب. الواقع نفسه يعانيه حليفه الرئيس نبيه بري الذي خرج مهزوماً في معركة عسكرية طاحنة بين حركة quot;أملquot; التي يتزعمها وquot;حزب اللهquot; في نهاية الثمانينات من القرن الماضي في اقليم الخروب حيث سالت دماء مئات الضحايا. واليوم يتصرف تحت وطأة هذه الهزيمة التي تزايدت بعد خروج الجيش السوري قبل نحو ستة أعوام.
ثمة اختلاف كبير بين هزيمة بري الذي كان جنرالاً قبل أن يتحول أسيراً وجنبلاط الذي كان في ثورة الأرز قائداً سياسياً الى ان اختار أن يصير أسيراً سياسياً. واذا كان من عبرة فهي في سعد الحريري الذي مرّ مثل جنبلاط بتجربة 7 أيار 2008 لكنه خرج منها قائداً وطنياً ولا يزال. أما الخوف من السلاح فعلاجه أولاً في 14 آذار التي صنعت انتصاراً سلمياً مدوياً في وجه كل أسلحة النظام الأمني اللبناني - السوري المشترك ومعه سلاح quot;حزب اللهquot;. لا يحتاج الزعيم الجنبلاطي الى أن يعيد التذكير في البيان الذي تلاه قبل يومين بالتاريخ النضالي للحزب التقدمي الاشتراكي على امتداد عقود في القرن الماضي فقط عليه أن يعلم ان أعواماً قليلة أمضاها في الانتفاضة التاريخية لشعبه ابتداء من عام 2005 تساوي قروناً في حسابات الأمم المناضلة.