عائشة المري

في استنساخ لمشهد الحرق التونسي تكرر المشهد في الجزائر وموريتانيا واليمن وما زالت الأنباء تترى عن دول جديدة وصلها لهب الأجساد المحترقة دون أن يؤدي لتفجير المشهد السياسي أو الاجتماعي في أي من الدول الأخرى. حرق الأجساد احتجاجاً أصبح عدوى عربية سارعت المؤسسة الدينية لتحجيمها ومحاصرتها من على المنابر فصدرت الفتاوى وأفردت الأحاديث النبوية التي بلا شك لا تخفى عن كل مسلم وعربي ولا تحتاج لفتوى شرعية. لا تكفي كل عبارات الصبر واحتساب الأجر أمام غول الفقر والجوع والظلم. لا أبرر أفعال التطرف الإنساني ولكنني أتفهم لغة الجوع البشري، أبجديات العجز وطغيان الظلم السياسي والاجتماعي.

إنها حالات إحباط قصوى تستحق الدراسة من علماء الاجتماع والنفس، وفظاعة الأجساد المحترقة تحرك الأفواه المكممة والعيون الخانعة للتحرك في مظاهرات تجتاح الأخضر واليابس. كان رد فعل الشارع العربي على الثورة التونسية فرحاً غامراً، فرحاً مقلقاً للأنظمة السياسية فسارعت بعض الحكومات العربية لخفض الأسعار وأعلنت دعمها للسلع الرئيسية كالخبز والوقود والسكر، فيما أعلنت أخرى عن برامج اجتماعية لدعم الشباب ولتشغيل العاطلين. إن الحديث عن إصلاحات عربية في المرحلة الراهنة ينطلق من نموذج الأزمة التونسية الذي مثل خطراً وتحديّاً لبعض النظم العربية القائمة فكان لابد للتصدي لهذه الأزمة من اتخاذ قرارات حاسمة وإجراء إصلاحات جذرية، فالإصلاح هو الاستجابة العقلانية لمواجهة هذه الظروف الصعبة.

إنها حالة عربية ليست بالفريدة ونموذجاً قابلاً للتكرار، من الطبيعي أن تنتج سنوات الاستبداد السياسي والقمع البوليسي مصحوباً بالفساد الاقتصادي تطرفاً فكريّاً أو سلوكيّاً، ومن السهل أن نحكم على الأفعال المتطرفة بالتحريم أو التجريم. فهل ننسى قوارب الموت التي تعبر بالشباب التونسي وغيره من الشباب العربي أمواج المتوسط إلى الضفة الحلم ليعيش إن نجا من الغرق في سراديب المدن الأوروبية ممتهناً أحقر المهن التي تقترب في معظمها من السخرة؟! إن كانت المظاهرات وحرق الأجساد طريقاً للتغيير فلن تعدم التضحيات بين الشباب العربي، فالقارب طريق للخلاص الفردي والنار طريق للخلاص الجماعي، ألا يجدر بالمؤسسات الدينية التي سارعت بتحريم الانتحار حرقاً أو شنقاً أن تفتي بتحريم الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهل تذكِّر خطب الجمعة ومنابر الإفتاء بالحاكم العادل والحاكم المستبد؟

إنها رسالة واضحة من الشعوب العربية لحكامها ، بأن سياسة تصدير أو تأجيل الأزمات لم تعد مجدية. لقد فهمت الشعوب العربية أن إحراق العلم الأميركي أو العلم الإسرائيلي تحت عين الحكومة ما هو إلا تفريغ شحنات سياسية سالبة ثم تنفض الجموع وترجع الجماهير لحالة البؤس الاقتصادي والاجتماعي. في ظروف الفقر المدقع وانتشار البطالة وانعدام الطبقة الوسطى هل تخرج الثورات ضد العدو الخارجي أم العدو الداخلي؟

اللحظة التونسية الراهنة لحظة تاريخية حاسمة لا تقبل التوفيق أو التلفيق أو الإبطاء، إن التغييرات العظيمة تحتاج إلى ثورات عظيمة تطيح النظام القائم وتبني نظاماً جديداً، فالتغيير في هرم السلطة السياسية يؤدي بالضرورة إلى تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية كبرى في مؤسسات المجتمع السياسية والاجتماعية في القيم السائدة وأنماط السلوك وغيرها. ولكن يجب الانتباه إلى أن الثورة لا تؤدي بالضرورة إلى واقع أفضل فأحياناً تترتب على التغييرات السريعة وسقوط النخب السياسية نتائج سلبية كانعكاس للأوضاع السياسية السابقة، إن لم توجد نخب سياسية بديلة تأخذ على عاتقها عملية التغيير فقد تؤدي الثورات الكبرى إلى حرب أهلية أو عدم استقرار سياسي أو حتى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من سيئ إلى أسوأ.