عبدالله الفوزان

ثبت الآن أن أحد الشخصين كذاب.. فإما أن يكون جنبلاط كذاب بالفعل ولأنه يعرف عن نفسه ذلك فلم يرد على نصرالله، بل وجاءه صاغراً، أو أن نصرالله كان يدرك أنه قد كذب عندما وصم جنبلاط بالكذب وأنه لهذا لم يجد حرجاً في إعادة العلاقة معه وأخذه بالأحضان عندما عاد إليه

عندما تم اكتشاف الكاميرات التي نصبها حزب الله فوق سور مطار بيروت عام 2008 عقد وليد جنبلاط مؤتمراً صحفياً مثيراً، أعلن فيه عن الواقعة، وأرغى وأزبد، وبدا وكأنه الأسد الغضنفر وحزب الله أرنباً جاهزاً للاصطياد، أو كأنه يملك قنبلة ذرية في مواجهة سلاح حزب الله، ودعا بالثبور وعظائم الأمور، ولم يكتف بمهاجمة حزب الله بل أضاف له سوريا وإيران في موقف بالغ العجب ويدعو للتساؤل، وأنهى مؤتمره الصحفي على وقع (سنابك) كلماته الرنانة، ولم يقف عند هذا الحد بل طلب من الحكومة اللبنانية التي كانت برئاسة السنيورة آنذاك إحالة القضية للتحقيق، وعندما شعر أن هناك رغبة من السنيورة في التهدئة ـ كما كتبت بعض الصحف آنذاك ـ هدد بسحب وزرائه من الحكومة إذا لم تستجب لطلبه معتبراً ما أقدم عليه حزب الله عملية تجسس على اللبنانيين، ومندداً بوضع حزب الله شبكة اتصالات خاصة به، ومعتبراً هذا في منتهى الخطورة، أي إنه باختصار قد أعلن المواجهة بصوت جهير لإيقاف حزب الله عند حده. وقد استجابت في الآخر له الحكومة وحولت القضية للتحقيق، ومعروف ما حصل بعد هذا فقد خرج نصرالله في المساء على طريقته المعتادة، وألقى خطابه الشهير الذي اتكأ فيه على زمجرة جنبلاط وقرار الحكومة واعتبر ذلك اعتداء على سلاح المقاومة، وقال إن اليد التي تمتد لسلاح المقاومة لا بد أن تقطع (لازمته الشهيرة) أي إنه أبلغ أن حزب الله سيقطع يد الحكومة ويد جنبلاط لأن ما حصل هو اعتداء على سلاح المقاومة، وبعد أن اكتشفت الحكومة أن جنبلاط ورطها اضطرت لسحب قرارها، ولكن هذا لم يمنع من حصول المحذور فقد اجتاح حزب الله ومعه منظمة أمل بيروت وحصل كل ما حصل.
لكن هذا ليس الشاهد، بل الشاهد أن حسن نصرالله في خطابه شن حملة عنيفة على جنبلاط وهاجمه بقوة، ونعته بأسوأ الخصال، فاتهمه بالكذب، وكرر ذلك فقال إنه .. كذاب .. كذاب.. وكان هذا الهجوم الكبير قد لفت نظري، وتوقعت أن يرد جنبلاط، ولكن لم يحصل شيء من ذلك، بل إن جنبلاط بعد اجتياح بيروت ومحاصرته منزله أصبح مثل (النار المرشوشة) فقد انطفأ تماماً، بل وسارع بالاتصال بخصمه الدرزي الموالي لحزب الله (أرسلان) وفوضه بعمل ما يراه، ثم بدأت مواقفه بعد اجتماع الدوحة تتغير بالتدريج، فبدأ يتودد لحزب الله وسوريا، ووسَّط الكثيرين حتى تصفح عنه سوريا، واعتذر لها مراراً في وسائل الإعلام، وحين (صدر العفو) الذي لا بد أن يكون بشروط رأينا جنبلاط بريش جديد ولون جديد، وأصبح يتردد على حسن نصرالله في خلوته، وعلى بري ليكون أحد زواره الدائمين، كما رأيناه يداوم على تسجيل اسمه في سجل زوار سوريا، ويقف في الطابور مع الواقفين ليحظى بزيارة الرئيس بشار، وها نحن نراه يوم الجمعة يخطو خطوته الأخيرة بالإعلان عن الانضمام لسوريا والمقاومة في الاستشارات التي ستتم اليوم وغداً لتحديد رئيس الوزراء القادم في لبنان متنكراً لرفاقه في 14 آذار مع أنه كان أكبر المحرضين لهم.
حسن نصرالله هاجم جنبلاط بعنف وقال عنه إنه كذاب، ورددها وأكدها، ومن المعروف أن السياسي يكذب كثيراً، ولكن حين يُكتشف كذبه ويثبت فإن هذا يصبح له اعتبار آخر، فثبوت الكذب على السياسي قد يسقطه، فهو يسقط البرلمانيين، ويسقط الوزراء ورؤساء الوزارات، بل ويسقط حتى رؤساء الجمهوريات (طبعاً ليس في العالم العربي) فالكذب من أسوأ الخصال التي يمكن أن تنعت بها السياسي، ولذلك فلا يمكن أن يتجرأ أحد في لبنان الآن أن ينعت حسن نصرالله بالكذب فلو حصل هذا لقامت القيامة، أما جنبلاط فلم يحرك ساكناً بل وارتمى في أحضان من وصمه بالكذب.
بصراحة من اللافت جداً أن يعود جنبلاط ليتمسح بشخص قال عنه إنه كذاب، ومن اللافت كذلك أن يأخذه نصرالله بالأحضان مع أنه عنده هو ذلك الشخص الكذاب، وقد وصمه بذلك على رؤوس الأشهاد، ولكن من هذه الناحية قد تتطلب السياسة هذا أحياناً، إذ من الممكن أن يكون نصرالله قد أراد استخدام جنبلاط فيما يريد وإذا انتهى غرضه منه تركه لمصيره، ومن الممكن أن يكون جنبلاط يتمسح بنصرالله ليتقي شره بعد أن ظل يرتعش من الخوف وهو محاصر في منزله في وسط بيروت أثناء الاجتياح ليتخذ موقعاً آخر بعد ذلك عندما يزول الخطر.. كل هذا ممكن ولكنه لا يلغي أن حسن نصرالله قد قال بالفم المليان عن جنبلاط وعلى رؤوس الأشهاد إنه كذاب.. أي إنه قد ثبت الآن أن أحد الشخصين كذاب.. فإما أن يكون جنبلاط كذاب بالفعل ولأنه يعرف عن نفسه ذلك فلم يرد على نصرالله، بل وجاءه صاغراً، أو أن نصرالله كان يدرك أنه قد كذب عندما وصم جنبلاط بالكذب وأنه لهذا لم يجد حرجاً في إعادة العلاقة معه وأخذه بالأحضان عندما عاد إليه.. هناك واحد منهما الآن كذاب أشر... فمن هو يا ترى.. جنبلاط أم حسن نصرالله؟.