طلعت رميح

وجه آخر للاحداث فى تونس ينبغي التنبه له واعطاؤه كل الاهتمام باعتباره الاساس فى النظر الى جوهر فكرة التغيير واهدافها ونتائجها لا فى طريقتها فقط او نمطها. الاحداث التى جرت فى تونس اعادت ارساء رؤية جديدة، اذا قورنت بالاحداث التى شهدها ويشهدها العراق وافغانستان والسودان وغيرها.التغيير فى تونس جرى وفق نموذج الاعتماد على الحركة الشعبية الواسعة من تظاهرات واضرابات واعتصامات mdash; التى وصلت حد اقصاء الرئيس التونسى السابق زين العابدين بن على mdash; وهى عملية تغيير جاءت مختلفة عن نمط التغيير الذى جرى فى العراق اذ اطيح بالرئيس العراقى السابق صدام حسين عبر الاستعانة بقوات اجنبية وكذلك الحال بالنسبة لحركة طالبان..الخ.
الاختلاف الاساسي ليس فى مسألة إطاحة الرئيس او سقوط النظام، بل فى طبيعة القوى والطريقة التى جرت بها عملية التغيير ومن ثم فى النتائج التى حدثت ما بعد التغيير، وتحديدا فى الكلفة البشرية التى دفعها الشعب خلال عملية التغيير، وعلى صعيد الوطن كله،اذ تغير نظام صدام وحل محله الاحتلال الامريكى والحكم الطائفى وتفكيك المجتمع..الخ.
فى تونس mdash; وان لم تنته عملية التغيير كليا mdash; فان الاعتماد كان على قوة الحركة الشعبية، ولذلك لم ينتج التغيير احتلالا لهذا البلد ولم يسقط ضحايا بمئات الآلاف، ولم ينتج تفكيكا للدولة ولا للمجتمع، بل جرت وتجرى عملية التغيير بعدد محدود للضحايا، فى ظل محافظة هذا البلد على استقلاله، وكذلك ان كانت بعض اعمال التخريب قد طالت بعض المؤسسات والممتلكات، فان الامر جاء مختلفا كليا عما جرى فى العراق من عملية شاملة لإنهاء كل منجزات ذاك البلد.
لقد جرت عملية التغيير فى تونس بأقل قدر من الخسائر، فجاءت النتائج ايجابية وفاتحة الطريق امام الشعب التونسى لبناء المستقبل، اما ما جرى فى العراق، فجاء بنتائج عكسية فى كل المجالات الآن ومستقبلا. لقد سقط ما يزيد على المليون انسان وحدثت اخطر عملية تهجير للسكان، فذهب من ذهب لاجئا فى الخارج وتشرد من تشرد فى داخل الوطن، وجرت اكبر عملية تخريب عبر التاريخ، لكل المنجزات الحضارية والاقتصادية والمجتمعية والانسانية، وانهارت كل مؤسسات الدولة او لنقل تحطمت،كما انتهى المجتمع الى حالات تفكيك الى مكوناته الاولية من طوائف وتكوينات عائلية وقبلية وعرقية، وحدثت اخطر حالات الاحتراب والاقتتال وتشكلت آلاف المجالات للثأر، فصرنا امام عراق محطم كليا، فضلا عن انه صار بلدا محتلا من اقوى قوة كونية بما فتح مساحة زمنية ما بعد انهاء النظام السابق للذهاب الى حالة جديدة من القتال والاقتتال.
نحن اذن امام نمطين مختلفين من التغيير. الاول فى العراق وانتج تخريبا ومثله ما جرى فى افغانستان، وبطريقة او بأخرى ما جرى فى السودان ممثلا فى عملية فصل الجنوب، والثانى ما جرى فى تونس وانتج حضورا جماهيريا ضاغطا وتطويرا للنظام السياسى مع المحافظة على كل مقدرات البلد وعلى استقلالها.
المفارقة الأخطر
وهنا تبدو مفارقة هى الاعمق فى النظر للاختلاف بين النمطين. ففى الحالة العراقية كان quot;قائد quot;لعبة التغيير هو القوى السياسية وجاءت العملية كما رأيناها مرتبطة بالاجنبى ولمصلحته وعلى حساب ارواح الشعب ومصالح الوطن واستقلاله واستقراره، بينما حركة التغيير فى تونس كانت حركة عفوية مرتبطة بالشعب والشارع، تدخلت فيها النخب السياسية من بعد اشتعالها وصمودها فجاءت مرتبطة بمصالح الشعب وبأيديه.
هذا امر يلفت النظر بحدة فى كلتا الحالتين. فاذ يتصور البعض ان النخب الفكرية والسياسية هى الاكثر وعيا والاعلى قدرة على قراءة المصالح العليا للوطن والامة على اساس انهم الاعلى وعيا وفكرا والاصلح فى القدرة على تمثيل مصالح الامة وتحديد آفاق مستقبلها، فقد جاءت تحركات تلك النخب مدمرة للعراق واهله، بينما كان الحال مختلفا فى تونس، حين تصدرت الحركة الشعبية العفوية مشهد التغيير وحددت مجراه ومحتواه واسسه واتجاهاته المستقبلية، وجاءت النتائج لمصلحة ثوابت مصالح الشعب والاستقرار بما فتح الطريق امام المستقبل.
وذلك يتطلب إعادة التفكير فى الرؤية المستقرة لدى الكثيرين بشأن دور النخب السياسية والفكرية فى المرحلة الراهنة، اذ يمكن القول بان النخب السياسية والفكرية، فى مرحلة التحول العولمي الحضاري الراهن صارت فى كثير من مكوناتها ادوات خطرة للهدم لا عناصر طليعية تحقق الوعى عند التغيير وترشد حركة الجمهور العام وتطور حركته باتجاهات اكثر ايجابية خلال عمليات التغيير.
النخب الفكرية والسياسية فى العالم العربى لم تعد تنطبق عليها الافكار القديمة،اذ صار بعضها اشد وبالا على الامة واكثر خطرا خلال عمليات التغيير، بينما الشعوب لا تزال هى الحافظة والمحافظة على الرصيد الاستراتيجى الحضارى والمكنون الثقافى والمصالح الثابتة للاوطان. لقد اسقط ما جرى فى العراق وفى افغانستان وفى السودان الدور الطليعى للنخب ووضعها خلف الشعوب لا امامها بل جعل بعضها فى صف اعداء الشعوب والاوطان. وفى تونس وضعت الشعوب تلك النخب خلف ظهرها، وتحركت هى، معتمدة على قدراتها وافكارها، فكنا امام نموذج من الوعى الشعبى هو الاعلى من وعى النخب.
دور النخب قد سقط فى الحالتين التونسية والعراقية وان بنسب واتجاهات مختلفة. فى الحالة العراقية سقط دور كثير من النخب فى مستنقع الولاء للمستعمر تحت ستار وشعار التغيير. وفى تونس تراجع دور النخب الى ما خلف حركة الجمهور.
الموجة والنموذج
الموجة التونسية ادت الى تعبئة الجمهور العربى للاتجاه للتغيير وفق ذات النموذج، وفى ذلك ايجابية اخرى لهذا النمط من التغيير اذ صار نمط التغيير التونسى ملهما لجمهور البلدان العربية الاخرى، فكانت المظاهرات فى مختلف البلدان العربية، بينما الحالة العراقية كان تأثيرها سلبيا على حركة الجمهور العربى فى محاولته القيام بالتغيير الداخلى، اذ هى حملت مخاوف من التغيير، بعدما شاهدت الشعوب العربية ما ادى اليه رفع شعارات الاستعانة بالاجنبى لتحقيق التغيير، وكان لما نتج عن تلك العملية العدوانية الاستعمارية اثار خطيرة على حركة الجمهور، الذى وجد اغلبه ان العيش فى ظل الديكتاتورية ارحم من الموت تحت قصف طيران وصواريخ المحرر الاجنبى.
والموجة التونسية قامت على وحدة المجتمع فى مواجهة الحاكم الظالم، بل هى وحدت المجتمع اكثر مما كان عليه الحال قبل التظاهر والاعتصام mdash; توحد الشعب الذى كان متفرقا فى الشوارع خلال سعيه الى الرزق والحياة المكدودة mdash; فأعادت للشعوب كياناتها الاجتماعية ووحدتها الثقافية وتوحدها خلف شعارات وطنية تمكنت خلالها من عزل الظالمين والمرتشين القلة، وذلك نموذج يستهوى الشعوب ويرتبط بطبيعتها ويحقق مصالحها بطبيعة الحال، بينما الحالة العراقية،مثلت نموذجا مخيفا ونمطا منفرا من التغيير، اذ قامت على تفكيك المجتمع بين مؤيد لقصف المحتل وقتله لأبناء بلده الآخرين ومتسامح مع من جاء لاحتلال بلده mdash; وقد كان هذا هو الاساس لانقسام المجتمع mdash; ومن يقاتل الاحتلال ويدافع عن الوطن. ومن بعد نتج عن عملية التغيير فى العراق حدوث المحاصصات الطائفية وتقسيم المجتمع عرقيا بما جعل اتجاه التغيير سلبيا على وحدة الشعب وعلى التماسك الوطنى. قام النموذج العراقى للتغيير على استبعاد مشاركة الناس وعلى احتلال الوطن وافقاده استقلاله بل كان التغيير هو حالة صناعه لعراق معاد لأبنائه ولمصالح الشعب. ولذا خافت الشعوب العربية من مثل هذا التغيير، بل هى تحولت من بعد للدخول فى مواجهة معه، اذ اكتشفت انه ليس تغييرا لمصلحتها بل هو عملية عدائية ضد الشعب تحت عنوان ازاحة الحكم، وصارت تخشى من وقوع التغيير.
لكن الموجة التونسية صارت نموذجا محفزا للشعوب الاخرى لولوج طريق التغيير، او هى حسمت التردد فى ولوج هذا الطريق، اذ قدمت نموذجا ايجابيا فى الاتجاه والرؤية والنتائج، وصارت نموذجا ملهما وقابلا للتطبيق، كما هى ثبطت محاولات بعض النظم الادعاء بوطنيتها وان التغيير القادم من الخارج ناتج عن رفضها هى التفريط فى حقوق الشعوب، وان ما يجرى لإحداث التغيير من خلال الحركات الجديدة، ليس الا عمليات تركيع لتلك النظم.
جديد الفكرة
الآن حسم امر التغيير فى المنطقة، وسقط الكثير من المقولات. انتهت مقولة ان الشعوب العربية خاملة مستكينة والا امل فى التغيير، ومعها سقطت نظريات واعمال تنظير طالما رددها المتخاذلون او التبريريون لبقاء النظم المتسلطة. وانتهت فرضية الا امل الا فى دور خارجى للتغيير وانتهى التطلع الى الولايات المتحدة والغرب، اذ كانت كثرة المثقفين تراقب المواقف الامريكية وتعتبرها الاساس فى تحركاتها، فاذا صعدت مواقفها علت اصواتهم واذا خفتت مواقفها ناموا واستكانوا مع نقد لعدم تدخلها فى الشؤون الداخلية العربية. لم يعد لاحد الآن ان يتطلع الى دور امريكى او اوروبى منقذ للشعوب العربية او مساهم فى صياغة الاوضاع الداخلية او لنقل مساعد فى اسقاط النظم المتسلطة، ومن يقول بهذا وفق اية quot;تخريجةquot; نظرية ليس الا عاملا لمصلحة تلك الدول الاستعمارية لا لمصلحة الشعوب.
وسقطت نظرية تفكيك المجتمعات تحت غطاء تغيير النظم. الآن لم يعد للتفكيك مكان اذ الموجة التونسية حققت الوحدة الوطنية او جمعت شتات الوطن وحافظت عليه وجعلته هدفا من اهداف احداث التغيير، وبذلك تهزم الآن نظرية وحالة التفكيك العرقى والاثنى والطائفى الجارى اعمالها فى اليمن وتلك الجارية فى العراق ولبنان والاهم ان ما جرى اذا امتد بموجته الى الجزائر يصبح امر تقسيم الناس الجارى على اساس عرقى واثنى وثقافى عملا من بقايا التاريخ مرة اخرى. ذلك امر مهم بل اهم ما فى نظرية التغيير التونسية،اذ لم ترفع لا شعارات فئوية ولا جهوية بل توحد الشعب كله فى الشارع لمنافحة المتسلط على الجميع.
والآن سقطت نظرية عدم تأثير الشعوب على بعضها البعض، ولذا قلنا انها الموجة التونسية للتغيير ولم نقل الحدث التونسى. ومن الآن فصاعدا ومع تحول الحركة التونسية الى ثورة كاملة الاركان والنتائج، يمكن القول باننا امام المرحلة الجديدة او المرحلة الثالثة من التغيير فى العالم العربى. مرت دول امتنا بثلاث مراحل سابقة خلال الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهى الآن تدخل مرحلتها الرابعه.كانت المرحلة الاولى هى مرحلة التحرر الوطنى وفق صيغة مواجهة الاستعمار ومقاومته وخلالها كانت الانقلابات العسكرية وحركات المقاومة التى كان هدفها الرئيسى اجلاء المحتل وتشكيل دولة حديثة بمؤسسات قادرة على بناء دولة وطنية. وفى المرحلة الثانية التى جرت فى السبعينيات والثمانينيات حدث انكسار فى حركة التحرير العربية وجرى النكوص عن مختلف الاهداف المعلنة عند بداية حركة التحرير خاصة افكار وشعارات بناء دولة تحافظ على الاستقلال وتطوير الاقتصاد لخدمة القضايا الاجتماعية، وصارت التمردات ذات الطابع الاجتماعى هى المسيطرة على المشهد، وهو ما ظهر فى احداث عنف اجتماعى عديدة فى تلك المرحلة مترافقا مع تحول نظم الحكم الى نمط من التسلط والفساد. وتلتها الموجة الثالثة التى سيطرت عليها حالة من الاضطراب فى وجه المثقفين والحركة الشعبية، اذ ظهرت نزعات تفكيكية وتفتيتية، وسادت حالات اليأس التى دفعت ببعض المثقفين الى الذهاب للاجنبى والطلب منه اعادة احتلاله للدول العربية، بل سرت مقولات شعبية تتحدث عن ان العيش تحت الاحتلال كان افضل من العيش تحت حكم الثوار. والآن تبدأ تونس المرحلة الرابعة بإعادة كل الامور الى نصابها واعادة الاعتبار لحركة الشعوب وارائها ومصالحها ومخزونها الحضارى الكامل، وتربط بين الديمقراطية والحقوق الاجتماعية.. وبين الوطنية والديمقراطية..الخ.
جديد التغيير
فى جديد التغيير، فان الاهم هو ان فئة جديدة من النخب قد ظهرت واصبحت فى موقع قيادة التمرد الشعبى وصارت قادرة على حشد آلاف المواطنين فى الشوارع. هى نخبة جديدة كليا لم تتشكل داخل بوتقة الاحزاب والتيارات التقليدية، بل هى تؤسس لنمط جديد فى التفكير الديمقراطى باعتبارها فئات نشأت فى ظل ما اتاحته الحياة الآن من اوسع حالة من الاطلاع على تجارب العالم فى الحكم الديموقراطى. وهى فئة تربط الديمقراطى بالاجتماعى والعكس فى تشكيلة جديدة صحيحة لإعادة بناء الوطن وتقدمه. وهى فئة جديدة فى وسائلها المستخدمة فى التواصل وتنمية الارتباطات، اذ يلعب تواصلها عبر وسائط الاتصال والاعلام الحديثة الدور الاكبر فى تطوير حركتها واجتذاب الآخرين وترتيب المظاهرات على نحو يفاجىء الحكم والتيارات الفكرية والسياسية السائدة فى المجتمع.
هى حالة تجديد كاملة للمجتمعات والحكم والتيارات الفكرية والسياسية، وليست فئة تستهدف احلال شخص محل شخص ولا طيف من النخب القديمة بنخبة اخرى، واذا كان المراقبون لاحظوا كيف ان الثورة التونسية افلتت من كل محاولة لتأطير حركة الجمهور فى داخل الاطارات التقليدية القديمة فظلت الثورة مستمرة، فذلك امر مهم، اذ حركة الجمهور تفشل كل محاولات تعويق تغيير المجتمعات لنفسها وللنخب مستقبليا، وبهذا المعنى هى ثورة، اذ هى لا تغير الحاكم.. ولكن الحكم.. وطريقة الحكم.. والنخب.. والمجتمع كله.