سعيد حارب


إذا كان البعض يطلق على الثورات العربية مسمى الربيع العربي فإن بالمقابل هناك خريف عربي يغطي أنظمة طالما وصفت بالديكتاتورية، ولعل الحال الذي وصل إليه القذافي خير دليل على أن الأنظمة الديكتاتورية العربية بل ربما امتد ذلك إلى غيرها من الدول الأخرى تعيش هذا الخريف، ورغم النهايات المفجعة التي يصل إليها الديكتاتور أو نظامه فإن الديكتاتورية لم تتوقف منذ ظهورها الأول في العصر الروماني كما يؤرخ لها، وقد يكون قبل ذلك، ولن تتوقف، سواء ظهرت في صورتها الجماعية أو الفردية التي تقوم على تسلط الفرد على كل مقدرات الدولة، وتترسخ بيده السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل تترسخ بيده حياة الناس وممتلكاتهم وأموالهم فهو المسيطر على كل شيء في المجتمع، ويسخر كل وسائل التأثير على الرأي العام لمصلحته بحيث يبقى هو الزعم الأوحد الذي laquo;لا يعقب أحد عليهraquo; ولعل نماذج مثل هتلر وموسيليني وستالين تمثل صورة من هذه الديكتاتورية إلى زمن قريب، وفي الزمن الأقرب فإن نماذج laquo;تشاوشيسكوraquo; في رومانيا و laquo;إريك هونكرraquo; في ألمانيا الشرقية وشاه إيران، و laquo;جان بول بوكاساraquo; في إفريقيا الوسطى و laquo;سوهارتوraquo; في إندونيسيا وأخيرا القذافي في ليبيا وغيرهم -كل هذه النماذج- تمثل صورة واضحة للدكتاتورية الفردية، وقد تكون الديكتاتورية جماعية أي بتسلط حزب أو كتلة أو مجموعة من الناس على الدولة وإدارتها ومؤسساتها، وتبدو هذه الصورة من الديكتاتورية في الأحزاب الشمولية التي تفرض هيمنتها على الدولة وتديرها لمصلحتها سواء كانت هذه المصلحة قومية أو فئوية أو فردية، وهذه الديكتاتورية قد تكون أخطر من الديكتاتورية الفردية؛ لأن الهيمنة والجرائم التي ترتكبها لا ترتبط بفرد تزول بزواله، لكنها تمتد إلى مكونات المجموعة التي تحرص على مساندة بعضها البعض كـ laquo;الأعمدة المتساندةraquo; حتى لا يسقط أحدها فيسقط الجميع، وتعتمد الديكتاتورية الجماعية -كما الفردية- على القوة من خلال سيطرتها على الجيش والقوى الأمنية المختلفة، وتعمل على تعدد مراكز القوة بحيث لا تنفرد جهة واحدة بالسيطرة على القوة وتحدث تغييرا فيها، ولذا نجد في الديكتاتورية الجماعية تعدد صور مؤسسات الأمن والمؤسسات العسكرية، كما تعتمد الديكتاتورية الجماعية على laquo;الأيديولوجياraquo; كمعتقد فكري يربط بين أبنائها في فكرة واحدة تدور في الغالب على تمجيد الحزب أو المجموعة وتمثل الأحزاب الشيوعية صورة للدكتاتورية الجماعية، لكن صورتها الأوضح تبدو في بعض التكوينات السياسية المتطرفة كمنظمة الخمير الحمر بقيادة laquo;بول بوتraquo; التي حكمت كمبوديا خلال الفترة من 1978 إلى 1998 وينسب إليه القيام بمذابح جماعية أدت لقتل مليون ونصف من الشعب الكمبودي، عدا عن الآخرين الذين تم استخدامهم في أعمال السخرة والقتال، ولا يزال العالم يتذكر صور التلال من الجماجم التي كان laquo;الخمير الحمرraquo; يقيمونها بعد كل مذبحة!! وفي الحالة العربية تبدو الصورة واضحة في دور حزب البعث في سوريا، فقد نص الدستور السوري في مادته الثامنة على أن laquo;حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولةraquo; أي أن الشعب إنما هو تبع لهذا الحزب laquo;القائدraquo; ولذا تتم صياغة المجتمع والدولة وفقا لما يراه الحزب دون النظر لأي مكونات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أخرى قد لا تتفق مع ما يراه الحزب laquo;القائدraquo;!!، وبذلك تتم صياغة المجتمع في الديكتاتورية الجماعية وفق ما تراه المجموعة لا ما يراه الناس laquo;جميعاraquo; ملبيا لمكوناتهم ولحاجاتهم، وغالبا ما تدخل الديكتاتورية الفردية أو الجماعية في صراع مع الداخل؛ إذ ينتشر الخوف والقمع ليس للمعارضين وحدهم بل لكل من لا يبدي تجاوبا مع ما يراه laquo;الزعيم القائدraquo; أو laquo;الحزب القائدraquo; كما تقوم الديكتاتورية على تغييب الشعب عن القيام بأي دور سوى تمجيد الديكتاتور والدوران حوله باعتباره محور المجتمع بل ربما محور الحياة أحيانا، ولا بأس في ذلك من عزل الشعب والدولة بأكملها خلف جدران عالية من العزلة التي تستثمر أحيانا الجهل والتخلف ومقاومة أي تغيير في الحياة حتى لا يعي الشعب ما يدور حوله، ومن هنا نجد مدى محاربة الديكتاتورية لأي محاولة للتعامل مع المتغيرات العالمية من حولها كالاستخدام الأمثل للتكنولوجيا، وإذا اضطرت للتعامل مع ذلك فإنها تخضعها لرقابتها بل وتسخرها لاستخدامها من أجل الهيمنة والسيطرة، وتهرب الديكتاتورية في الغالب إلى الخارج من خلال الصراع مع الجوار أو تصور الخارج بصوة المتآمر على الداخل ووضع المجتمع في حالة من laquo;الرهابraquo; الجماعي من laquo;الغيرraquo;، في مقابل ربط حبل النجاة بسفينة الديكتاتورية حتى يتصور الناس أن غياب الديكتاتور إنما هو زوال للدولة بأكملها، ولذا كثيرا ما يتردد أن الدولة أو المجتمع سيواجه مصيرا مجهولا بغياب الديكتاتور أو أنه سيدخل في حرب داخلية أو أهلية أو طائفية، وغير ذلك من علامات الترهيب التي تجعل الناس تردد laquo;لو علمتم الغيب لاخترتم الواقعraquo; ولا يعلمون أن الغيب ربما حمل لهم النجاة من هذا الواقع الأليم!!
ولعل أخطر ما تقوم به الديكتاتورية هو غياب فكرة الحرية؛ إذ يتم صوغ مصادر التأثير كالدين والتعليم ووسائل الإعلام وغيرها وفق فكر واحد ورؤية واحدة وهي الرؤية الديكتاتورية، وبالمقابل لا مكان لمن فكر بالحرية، لأنه يكون بذلك قد فتح على نفسه أبواب السجون والمعتقلات والمنافي والاغتيال، بل ربما وجد الديكتاتور من يزين له دكتاتوريته ويجعلها laquo;أساس الحريةraquo;، لكنه بمقدار قمعه للحرية، فإنه يؤسس لفكرة الحرية ذاتها فكل شيء يمكن تزويده وتسخيره للدكتاتورية.. إلا الحرية!!