هدى الحسيني
laquo;إنها أرض الألم.. الإرهاب أمس والزلزال اليومraquo;، كان هذا تعليق إحدى الصحف التركية حول الزلزال الذي ضرب منطقة جنوب شرقي تركيا، حيث حزب العمال الكردستاني قتل الأسبوع الماضي 24 جنديا في هاكاري.
شغل المتمردون الأكراد تركيا في وقت الحكومة التركية مشغولة فيه باتخاذ مواقف حادة في الشرق الأوسط، في محاولة لاسترجاع مسلمات السلطنة العثمانية.
الرابح من انشغال تركيا مع المتمردين الأكراد قد يكون النظام السوري، في حين تبدو إيران مرتاحة سرا بالتطورات الحاصلة في جبال قنديل.
عاد التمرد يطل برأسه في شرق تركيا بعد فترة من الهدوء النسبي، بدا خلالها أن تسوية سياسية للمشكلة الكردية صارت قريبة في ظل قيادة حكومة رجب طيب أردوغان، إلا أن الأمور بدأت تتدهور في العشرين من شهر أغسطس (آب) الماضي، مع هجمات كردية ومقتل جنود أتراك، ثم غارات جوية تركية على 85 موقعا كرديا، وهجمات أخرى على دوريات عسكرية.
يبدو جليا أن أنقرة laquo;تشددraquo; مواقفها، وكأن هناك عودة إلى التفكير العقائدي القديم الذي أثبت فشله، وهو أن البدء في أي ديمقراطية في المناطق الكردية يأتي فقط من موقع قوة، أي بعد هزيمة الإرهاب.. وبهذا يكون أردوغان قد أدار ظهره لواحد من أفضل طروحاته laquo;الانفتاح الكرديraquo;. فهو أظهر خلال السنتين الماضيتين حنكة وشجاعة سياسية في البحث عن مصالحة وطنية بين الأكراد والأتراك من خلال اعترافه بمظالم الماضي، وخلق مساحة لازدهار الثقافة الكردية والفن والعمل الفكري.
على أي حال، تدل المؤشرات الأخيرة على أن تحركات أردوغان الانفتاحية توقفت تقريبا، وتلاشت المحادثات عبر قنوات خلفية بين الحكومة والزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الموجود في سجن على جزيرة نائية في مرمرة، وعندما منعت أنقرة محامي أوجلان من زيارته تأكد أنها تتحول إلى المسار العسكري في تعاطيها مع الأكراد.
في السابق كانت أنقرة تتعرض لإدانة دولية شديد لانتهاكها سيادة العراق ووحدة أراضيه، لكن الغرب اليوم، وخصوصا الولايات المتحدة، يفضل تجاهل كل عدوان تركي، لأنه يعتمد على الحكومة الإسلامية في أنقرة للعب دور قيادي في قولبة laquo;الربيع العربيraquo; في الشرق الأوسط وتحديد توجهاته. على العكس دافع الغرب عن حق تركيا في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب.
لكن يبدو أن laquo;الربيع العربيraquo; ومحاولة تركيا laquo;تبنيهraquo; لم يؤثرا على التقرير السنوي للاتحاد الأوروبي المتعلق بتركيا، أو على وجهات النظر الأوروبية الراسخة. فيوم 12 من الشهر الجاري صدر التقرير الأوروبي الذي قيم الإصلاح المطلوب من تركيا لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ووجه اللوم بشدة إلى وضع حقوق الإنسان في تركيا والخلاف الحاد مع قبرص.
الأشهر الأخيرة كانت مهمة لتركيا التي أقنعت نفسها بأن الشرق الأوسط الجديد، في ظل اضطرابات laquo;الربيع العربيraquo;، لن يستطيع مقاومة تركيا باعتبارها نموذجا يُحتذى، وبالتالي فإن العالم الغربي سوف يجد نفسه مضطرا لمراجعة آرائه، وينظر إلى تركيا كحاجة حاملة شعلة التنوير في العالم الإسلامي.
التقرير الأوروبي الأخير كان بمثابة تثبيت للواقع التركي الحقيقي، فبقدر ما تبدو الأشياء كأنها تتغير، تبقى على حالها. انتقد التقرير الأوروبي بشدة تركيا إزاء عدم وجود حرية التعبير، وحقوق المرأة، والحرية الدينية، وكلها تقع دون مستوى المعايير المقبولة في الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا.
من المؤكد أن ما جاء في التقرير الأوروبي يحرج رئيس الوزراء أردوغان، الذي لا يزال ممتطيا موجة laquo;الربيع العربيraquo;.
لكن من جهة أخرى أثنى التقرير الأوروبي على حكومة أردوغان لدعمها تفوق الحالة المدنية على الحالة العسكرية (الجيش)، ووضع إقرار دستور جديد على رأس قائمة خططها، كذلك أثنى على السياسات الاقتصادية التركية، لكنه أشار إلى سجل تركيا السيئ في مجال الحريات الفردية والحقوق المدنية، وسيادة القانون، وحرية التعبير، وحقوق المرأة، والانتقاص من استقلالية الهيئات التنظيمية.
المفهوم الشائع في تركيا هو أن المفوضية الأوروبية تأتي دائما بذرائع لعدم قبول تركيا داخل ما هو في الأساس laquo;ناد مسيحيraquo;، وقرار أوروبا تشجيع طلب عضوية صربيا والجبل الأسود، وترك انضمام تركيا معلقا على شروط تتزايد باستمرار، سيعززان الإحساس بالتمييز الثقافي الفكري تجاه الأتراك.
انتقد التقرير رد فعل تركيا القوي لاستخراج الغاز الطبيعي في قبرص وشرق المتوسط.
والمعروف أن الدول الأوروبية لا تنظر بعين الرضا إلى مواقف المواجهة التي تعتمدها أنقرة مع قبرص، كما أنها تحث أنقرة على معالجة التوتر في علاقاتها مع إسرائيل.
لكن أردوغان لا يرغب في الاستماع، خصوصا أن قطيعة تركيا مع إسرائيل قد تكون القضية الوحيدة التي جعلت منه، بين عشية وضحاها، بطلا في الشارع العربي، كما أنها لم تكلف تركيا شيئا.
يضاف إلى ذلك، أن أوروبا لا تنظر بترحيب إلى رغبة تركيا في لعب دور قيادي في المناطق المحيطة بها. أوروبا هي الأقرب لتركيا، في حين أن الولايات المتحدة تقوم بتشجيع تركيا على هذا الدور، وكما ذكر لي أحد السياسيين الأميركيين، فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما يرتاح في علاقاته مع السياسيين إلى ثلاثة: المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيس كوريا الجنوبية لي ميانغ باك، ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان.
أما أوروبا فإنها همشت تركيا مثلا في مصير البلقان، وبالذات في مشروع تفكيك يوغوسلافيا السابقة، وفي الفترة الأخيرة، لم تدع فرنسا تركيا إلى الاجتماع السري لمناقشة التدخل الغربي في ليبيا، على الرغم من دعوة عدة دول عربية.
ومن المؤكد أن أوروبا، وفرنسا بالذات، ستتجاهل مطالبة تركيا بأي دور قيادي في سوريا أو في بلاد الشام، وأيضا في منطقة المغرب العربي (الملعب الخلفي لفرنسا).
المفارقة، كما جاء في تقرير المفوضية الأوروبية، هي أن برنامج تركيا الإصلاحي توقف تقريبا، في وقت يحث فيه أردوغان الدول العربية على الإصلاح، ولم تفت هذه المفارقة المعلقين السياسيين الأتراك؛ إذ كتب أحد البارزين (سيدات ارجن)، إنه بمجرد أن هبت رياح laquo;الربيع العربيraquo;، اتخذت أنقرة موقفا داعما يطالب بالتغيير في تلك الدول، وبالديمقراطية أيضا، وهذا موقف صحيح، لكنْ هناك تناقض كبير بين ما تدعو إليه وما تطبقه. وأشار إلى laquo;أن تصرفات النظام السوري ضد الجماعات المعارضة لديه تتزامن مع الوقت الذي يتعرض فيه أعضاء حزب السلام والديمقراطية (الكردي) لاعتقالات جماعية في تركيا، في الوقت الذي يبقى فيه النواب المنتخبون في السجن، وفي حين أن مجال التعبير أمام الحركات السياسية الكردية، والعمل داخل الأطر الديمقراطية ضيق جدا في تركياraquo;.
تبقى حقيقة أن هناك كل أنواع التدخل من عناصر أجنبية في المشكلة الكردية في تركيا، وهذا يثير قلق أنقرة. بعض المعلقين الأتراك اشتبهوا في وجود أيد إيرانية وسورية حركت الحالة الكردية في هذا المنعطف بالذات، وأشار معلقون آخرون إلى أن المخابرات الإسرائيلية كثفت في الآونة الأخيرة من أنشطتها في المناطق الكردية شمال العراق. كانت إسرائيل شريكا موثوقا به بالنسبة إلى تركيا في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، لكن من المشكوك فيه أن يبقى هذا التعاون قائما في ظل المناخ الحالي للعلاقات بين البلدين.
زعيم حزب الشعب المعارض، كمال كيليش دار أوغلو، أشار إلى laquo;أن ثلاثين عاما من المواجهة المسلحة مع التمرد التركي، كشفت أن استخدام السلاح لن ينهي الإرهاب، وإذا لم ينته الإرهاب اليوم فإن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسة السياسية، التي فشلت في القيام بواجباتها.. يتعين علينا استخدام لغة السلام.. يجب علينا احتضان الجميعraquo;.
ويقول سياسي غربي محنك: laquo;إذا كانت الولايات المتحدة بصدد تكليف تركيا، على اعتبار أنها الشريك المفضل لديها في منظمة حلف شمال الأطلسي، للقيام بدور قيادي في الضغط من أجل تغيير النظام في سوريا، فإن أنقرة اليوم لم تعد ترى الأوضاع بهذه الطريقةraquo;.
التعليقات