السيد يسين

هل ضاعت ثورة 25 يناير التي أصبحت بعد اندلاعها نموذجاً عالميّاً لقدرة الشعوب على تخطي حاجز الخوف من السلطة، وأكثر من ذلك وبصورة سلمية إسقاط النظام الاستبدادي، وإجبار الرئيس السابق على التنحي عن الحكم؟ هل ضاعت الثورة بفعل تشرذم صفوف الشباب الثائر الذي أشعل فتيلها وجعل ملايين المصريين ينضمون إليها، فتحولت من مظاهرة احتجاجية حاشدة إلى ثورة شعبية حقيقية؟
هل ضاعت الثورة نتيجة تكالب القوى السياسية القديمة والأحزاب الجديدة وائتلافات شباب الثورة على الفوز بأكبر نصيب من مقاعد مجلس الشعب الذي بدأت إجراءات انتخابه بالفعل؟

هل ضاعت الثورة وفقدت التعاطف الشعبي بعد تعدد المظاهرات المليونية بسبب ومن غير سبب، واستخدامها من قبل تيارات سياسية ودينية للدعاية الحزبية الفجة ولو كان ذلك ضد مصلحة المجتمع وهدماً لأركان الدولة؟

في يقيننا أن أسباب احتمال ضياع الثورة أبعد من ذلك كله. وذلك لأن المشكلة الحقيقية أن هذه الثورة التي قامت بغير قيادة وكان ذلك من أسباب نجاحها، لم يستطع من بادروا بالدعوة إليها على quot;الفيسبوكquot; والتظاهر في ميدان التحرير، أن يوحدوا صفوفهم بسرعة وأن يكونوا جبهة سياسية ثورية، قبل أن تنقض عليهم القوى السياسية التقليدية لانتزاع المبادرة منهم.

وهذه الجبهة السياسية الثورية لو كانت قد تشكلت وحددت مطالب التغيير الأساسية بعد إسقاط النظام في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واقترحت آليات محددة لتحقيقها، وقامت بالتفاوض البناء مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومع وزارة quot;عصام شرفquot;، لو حدث ذلك لكان من الممكن أن تسير المرحلة الانتقالية الضرورية من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وفق خطة طريق واضحة المعالم ومحددة الأهداف.

لقد انساق شباب الثوار للفخ الذي نصبته لهم القوى السياسية التقليدية وهو إجراء الانتخابات النيابية بأسرع ما يمكن، تمهيداً لتشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور ثم الشروع في الانتخابات الرئاسية. ولم يصدر عنهم بيان ثوري يشخصون فيه المشكلات الجسيمة التي يواجهها المجتمع المصري، نتيجة السياسات المنحرفة التي مارسها النظام السابق خلال ثلاثين عاماً كاملة.

وقد كان من المتوقع منهم تقديم أفكار جديدة حول إعادة تصميم هيكل الدولة ذاته ابتداء من رئاسة الجمهورية، التي تحتاج إلى إنشاء مؤسسات جديدة تسهم إسهاماً إيجابيّاً في عملية صنع القرار التي كان يحتكرها الرئيس السابق وعدد محدود من معاونيه.

مصر تحتاج إلى إنشاء مجلس أعلى للتخطيط الاستراتيجي يضم أكبر العقول المصرية من مختلف التخصصات، لوضع رؤية استراتيجية لمصر في العشرين عاماً القادمة، وذلك على غرار عديد من الدول التي رسمت خرائط المستقبل، حتى توجه عملية التنمية المستدامة في ضوء الاستبصار بالتفاعلات الدولية والسياسية والاقتصادية القادمة.

وهذه الرؤية الاستراتيجية ينبغي أن تصدر في وثيقة رسمية بعد عرضها ومناقشتها في المجالس النيابية ومراكز البحوث والجامعات ومع ممثلي مؤسسات المجتمع المدني.

وبعد صدورها لابد من أن تلتزم لها الوزارات المتعددة التي ستشكل لممارسة الحكم في البلاد. وهذه هي الطريقة الوحيدة لمنع تذبذب السياسات وتغييرها حسب هوى الوزراء المتعددين والمتغيرين في كل وزارة، أو وفق المصالح الطبقية الضيقة لعدد من رجال الأعمال المحتكرين، أو أهل السياسة الفاسدين.

وهذه الرؤية الاستراتيجية لابد لها أولاً من المراجعة النقدية لوضع مصر في النظام الإقليمي العربي، وذلك للقضاء على سلبيات المرحلة الماضية التي تراجع فيها الدور المصري لحساب قوى دول طامحة في أن تلعب أدواراً أكبر.

وأهم من ذلك كله اتخاذ موقف استراتيجي واضح من المشاريع الدولية الكبرى في الشرق الأوسط، سواء في ذلك المشروع الصهيوني بجذوره التاريخية القديمة وتطلعاته التوسعية الجديدة مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية وضد المصالح العربية عموماً والفلسطينيين خصوصاً، أو المشروع الإيراني الذي يطمع قادته في أن تكون إيران هي اللاعب الرئيسي في المنطقة، أو المشروع التركي البازغ الذي أخذ يتداخل في السياسات العربية بعد النجاح المبهر لتركيا في مجالات الديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية.

ولابد للرؤية الاستراتيجية المقترحة من مراجعة السياسة الاقتصادية المنحرفة التي طبقها النظام السابق، وقد قامت على هدى توجيهات الليبرالية الجديدة التي دفعت الدولة دفعاً إلى الاستقالة من أداء وظائفها الإنتاجية في الصناعة والزراعة، وألقت بعبء التنمية على عاتق القطاع الخاص بدون أي تخطيط من قبل الدولة.

وقد أدى هذا الوضع إلى نهب أراضي الدولة التي أقطعت بأثمان بخسة لرجال الأعمال حيث ضاربوا فيها وأثروا ثراء فاحشاً، ودفعهم ذلك إلى تبني أسلوب في الحياة يتجه إلى الانعزال عن جموع الشعب المصري وإقامة أحياء سكنية فاخرة لهم محوطة بالأسوار، تباع فيها الوحدة السكنية quot;فيلاquot; كانت أو قصراً بعشرات الملايين من الجنيهات.

هذا في الوقت الذي اتسعت فيه دوائر الفقر بالنسبة لملايين المصريين، وهو الوضع الذي دفعني إلى القول في قناة تلفزيونية حكومية قبل الثورة، إن المشهد الاجتماعي المصري يتلخص في عبارة واحدة مفردها منتجعات هنا وعشوائيات هناك!

وقد أدت هذه السياسة الاقتصادية المنحرفة إلى خصخصة القطاع العام وتدميره والتسريح المبكر للعمال. وعلى رغم تحقيق نسبة نمو وصلت إلى معدل 9 في المئة في سنة من السنوات الماضية، إلا أن النمو -كما يعرف علماء الاقتصاد- ليس هو التنمية. وبعبارة أخرى ما دامت آثاره لم تصل إلى ملايين الناس، فمعنى ذلك أن هناك عيوباً جسيمة في وضع وتنفيذ استراتيجيات التنمية المستدامة.

وكان لابد من مراجعة الوضع الاجتماعي المصري لمواجهة ظاهرة الانقسام الطبقي والهوة العميقة بين الأغنياء والفقراء، وذلك تحقيقاً لأحد شعارات ثورة 25 يناير الأساسية وهي تحقيق العدالة الاجتماعية.

ولا يمكن تحقيقها -وفق بعض التصورات الساذجة- بمجرد تحديد أدنى للأجور وحد أقصى، لأن العدالة الاجتماعية تقتضي في المقام الأول إعمال مبدأ المواطنة، وتأكيد قاعدة تكافؤ الفرص، ورفع مستوى التعليم الأساسي والجامعي، وترقية الخدمات الطبية، ووضع برامج واقعية للتشغيل لامتصاص البطالة السائدة، ورفع مستوى القوى البشرية بالتدريب المتواصل، الذي يجعلها قادرة على المنافسة في سوق العمل الدولي.

إن الرؤية الاستراتيجية المقترحة كان ينبغي عليها أولاً أن تعيد النظر في مبادئ الديمقراطية التي تقوم على انتخاب ممثلين عن الشعب لأعضاء في المجالس النيابية. فقد ثبت -لو نظرنا نظرة مقارنة- أن هناك قصوراً واضحاً في هذه الصيغة من صيغ الديمقراطية السائدة. وليس أدل على ذلك من أن انتخابات مجلس الشعب والشورى القادمين مهما كانت نتائجها، لن تكون على وجه الإطلاق ممثلة لفئات الشعب المصري، وذلك لأسباب متعددة لا مجال اليوم لتعدادها.

ومنذ ثم كانت هناك حاجة لابتداع ديمقراطية حرية جديدة تكفل تحقيق مطمحين من مطامح شباب الثورة. المطمح الأول ضرورة الاشتراك الشعبي في عملية إصدار القرار على كافة المستويات من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي. والمطمح الثاني ضرورة الرقابة على عملية تنفيذ القرار. فقد أثبتت الخبرة أن قرارات متعددة اتخذت وفق توجهات صحيحة، ولكنها ضاعت في التنفيذ من خلال قنوات الفساد المتعددة. هذه كلمات أولى حول المقترحات التي كان من شأنها أن تنقذ الثورة من الضياع!