وليد بن إبراهيم آل إبراهي


رسم الملك عبد الله بن عبد العزيز صورة نبيلة تعجز الكلمات عن وصفها. الوفاء ليس سمة جديدة على أسرة آل سعود. لكن الملك عبد الله عبر عن هذه المزية على نحو إنساني رفيع، يعد سابقة في النبل والشهامة وكرم الأخلاق، وهو تصرف على نحو يليق به، وبفقيد الوطن الرحل الأمير سلطان بن عبد العزيز. كان استقبال الملك، رغم ظروفه الصحية، لجثمان الأمير سلطان في المطار مشهدا مهيبا، وموقفا يليق بالكبار من الرجال. والذين يعرفون عبد الله بن عبد العزيز لم يستغربوا تمسكه بالوفاء لأخيه سلطان، وخلال مرض الراحل الملك فهد، تمسك أبو متعب بنهجه المتفرد، وظل وفيا للملك فهد حتى وافته المنية. رفض فكرة تنحيه، وبقي إلى جانبه. وفي استقباله لجثمان الراحل الأمير سلطان قدم رسالة مهمة للسعوديين والعالم، مفادها أن الدولة السعودية تملك تقاليد ملكية عريقة في الإدارة والحكم، فضلا عن أنه قال بوضوح إن المملكة تودع اليوم أحد أهم أركانها. والحق أن الملك عبد الله لم يبالغ، ولا هو تصرف بعاطفة الأخ والصديق فحسب، فالأمير سلطان كان قامة سياسية عظيمة ومتفردة، وهو لعب أدوارا مهمة في تثبيت وبناء الدولة على مدى أكثر من خمسة عقود.

عرفت الأمير سلطان منذ سن مبكرة، والمدهش في هذا القائد، رغم موقعه ودرايته بأدق تفاصيل الحكم والدولة، وذكائه الذي لا يتكرر، أنه كان يتصرف مع الملك كجندي في كتيبة. وهو اكتسب أهميته لدى والده المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله، ولاحقا عند إخوته الملوك بهذه الصفة التي يصعب على من هو بمنزلة سلطان وقدراته الذاتية ممارستها. سلطان بن عبد العزيز يمتلك مواهب لم يمتلكها غيره في نكران الذات في حضرة الملوك، وتنفيذ أمرهم، والطاعة لهم. كان يعلم الناس معنى الولاء، وفن التراتبية في العمل. لكن هذه الخاصية لم تمنعه من لعب دوره الرائد. كان يعرف متى يتدخل، وكيف يحجم. في بداية عملي في تأسيس مجموعة laquo;إم بي سيraquo; كان الراحل الملك فهد يغضب من بعض القضايا، وكان أبو خالد هو الملجأ والملاذ. وعلى طريقتنا نحن السعوديين كنت laquo;أزبن على الأمير سلطانraquo;، من غضب أخيه الملك فهد. يستقبلني بود وبشاشة. يلوم بلطف، ويحل كل أمر صعب. لا تدري كيف كان الأمير سلطان يفك العقد، ويسير الأمور. أشهد أنه أحد أهم السياسيين العرب في العصر الحديث. لا تشعر وأنت تتعامل معه أنه محتار، أو قلق، جمع بين الحلم والفطنة والحزم، يفضي لك بالقدر الذي تستحق أن تعرفه، ولا يشعرك أن ثمة شيئا مخفيا عنك رغم أن الأمر، في بعض الأحيان، عكس ذلك. أدركت كيف أن الملك فهد يقدر حكمة الأمير سلطان، وبعد نظره، ولهذا لا يرد له شفاعة أو طلبا، لأنه يعرف قدرة أخيه الأمير سلطان على ممارسة الصبر والأناة. كان الملك، ومن دون أن يصرح، يؤمن أن الأمير سلطان مبدع في التفاوض، وبعد النظر، وعدم الملل من الانتظار. وهو مرجعية في الحكم والإدارة. وحين تولى الملك عبد الله مقاليد الحكم، لم يتغير موقع الأمير سلطان عنده، ظل أبو خالد عضيد الملوك ومدماك الحكم حتى رحل.

لكن رغم أن رحيل الأمير سلطان هزنا جميعا، وأثقلنا بحزن عميق ومفجع، فإن تعيين الأمير نايف بن عبد العزيز خلفا له، جبر مصابنا، وعزز لنا الأمل بأن هذه الدولة تجيد صناعة الحكم والسياسة. وسيكتب التاريخ السعودي شهادة للملك عبد الله بن عبد العزيز بأنه يمتلك قدرة متفردة في اختيار الرجال. وهو مهد لوصول الأمير نايف باختياره نائبا ثانيا لعلمه بمقدرته وحكمته، وقدرته على سياسة الناس والحكم.

على مدى سنوات تعاملت مع ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية، وكنت - بحكم العمل - أجتمع معه كلما سنحت ظروفه ومشاغله الكبيرة، كان على الدوام شديد الإنصات، ودقيقا في اختيار عباراته، ويوصل رسالته بأقصر الطرق، وأقل العبارات، ولغته تمتاز بخفر الأديب، واختصار الشاعر، ورؤية السياسي. وحين مرت البلد بظاهرة الإرهاب، تأنى وتأمل وصبر، وجمع في المعالجة بين الكلمة والقوة، بين المادي والمعنوي، ولا يذكر التاريخ العربي الحديث أن وزيرا للداخلية تعامل مع العنف بالحوار والمناصحة، لكن الأمير نايف فعل هذا، وفي شكل أدهش العالم.

لا شك في أن الأمير نايف بن عبد العزيز لعب دورا تاريخيا رائدا وخلاقا في تعامله مع الإرهاب. الظاهرة نسبت في بدايتها لشباب سعوديين، وتاليا جرى هجوم على المملكة ونهجها ومناهجها وعلمائها وثقافتها، لكن الأمير نايف لم يتعامل مع الظاهرة وردود فعلها بمنطق ردة الفعل والحمية والرفض، ولا هو استسلم للضغوط وتنازل، تمسك بسيادة بلاده وتعامل مع المسألة بمنطق سياسي حصيف ومختلف، وحمى ثوابت الدولة، ودافع عن قيمها، ومارس، في ذات الوقت، دورا حازما في لجم الظاهرة، ونجح في دحر الإرهاب، ومنع التطاول على الدين والبلد، فضلا عن أن الأمير نايف كرس قضية مهمة وهي أنه لم ينل من حريات المواطنين باسم ملاحقة الإرهاب، كما فعلت دول عربية وغربية أخرى. كانت وزارة الداخلية، ولم تزل، حريصة على عدم انتهاك حريات الناس، بل إنها بدأت في السنوات الأخيرة تمنع بعض المؤسسات من وضع الحواجز التي تعيق حركة الناس في الشوارع والأحياء. فضلا عن أن كثيرا من الناس لا يعرف أن الأمير نايف محب للثقافة والشعر والأدب، وهو رب أسرة ودود ومثالي، وهو يسعى بجدية لحل مشكلة البطالة، ويضع حقوق المرأة على رأس أولوياته، لكنه يعمل بصمت وهدوء، قل نظيره عند أهل السياسة والحكم.