يوسف عبدالله مكي

جاءت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي، ليون نانيتا أثناء لقائه برئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو لتؤكد ما ذهبنا إليه في المقالتين السابقتين، عن صعوبة إقدام الولايات المتحدة على قيادة تحالف عسكري مع الكيان الصهيوني بهدف توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية.
لقد أوضح نانيتا أن أي ضربة توجه لإيران من شأنها أن تهدد الاقتصاد العالمي. وتأتي هذه التصريحات متسقة مع تصريحات لمسؤولين بالجيش الأمريكي لشبكة سي إن إن عبروا فيها عن قلق أمريكي متزايد من هجوم إسرائيلي محتمل ضد إيران، وأن الاستخبارات الأمريكية زادت مراقبتها للأنشطة العسكرية في تل أبيب وطهران.
تحاول الإدارة الأمريكية، بتصريحات كهذه إظهار نفسها على الحياد، فيما يتعلق بأي هجوم عسكري إسرائيلي مرتقب على إيران، متنصلة من شبهة التنسيق بينها وبين الإسرائيليين، حول الملف النووي الإيراني. لكن ذلك لا يغير كثيرا من الحقيقة التي يعرفها الجميع، عن الترابط الاستراتيجي بين الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية. إن ذلك يجعل من الصعوبة التسليم بإمكانية عدم معرفة الأمريكيين لخطط واستراتيجيات حلفائهم الصهاينة، خاصة وأن هذه التصريحات، تتزامن مع الإعلان عن استعداد لتدريبات عسكرية أمريكية - إسرائيلية مشتركة، يشارك فيها 5 آلاف جندي من جيشيهما.
ووفقا لمساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية - العسكرية اندرو شابيرو، فإن هدف هذه التدريبات هو محاكات سقوط الصواريخ البالستية، وسبل الحماية منها، في حالة حدوث حرب بالمنطقة. وتعتبر هذه التدريبات من وجهة نظر خبراء عسكريين، أكبر تدريب عسكري في تاريخ علاقات الدولتين.
يبدو أن كل الأطراف المعنية بقضية الملف، تعمل على خلط الأوراق، وأن الأمريكيين على الأقل ليسوا في وارد الدخول في مغامرة عسكرية أخرى، بعد فشل مشاريعهم في العراق وأفغانستان. فهم الآن في وضع مشابه لحالهم بعد هزيمتهم في الهند الصينية. فقد سادت آنذاك ما عرفت في حينها بعقدة فيتنام، العقدة التي تسببت في امتناع الأمريكيين لعقدين من الزمن، عن الدخول في أية مغامرة عسكرية، على مستوى العالم، والاكتفاء بالمكاسب التي حققوها، بعد الحرب الكونية الثانية، في صيغة قواعد وأحلاف ومعاهدات. وكانت حرب الخليج الثانية، والنصر السريع الذي تحقق للأمريكيين فيها مفتاحا للتخلص من تلك العقدة.
لن تعكر الإدارة الأمريكية كرنفال فرح شعبها، بمناسبة انسحابها من العراق وعودة الجنود إلى وطنهم، وسيكون على المؤسسة العسكرية الأمريكية، الانتظار طويلا، كي تمتص نتائج فشلها، في أفغانستان والعراق، قبل أن تقرر الدخول في مغامرات عسكرية جديدة.
وليس من المنطق الركون إلى أية تسريبات إسرائيلية حول اقتراب موعد توجيه ضربة عسكرية لطهران. فالمشاريع الساخنة والحساسة، كهذه لا تطرح علنا، بل يجري التخطيط لها في الغرف المغلقة، وأقبية العمليات العسكرية، وأمام الخرائط. وتأخذ دائما في الحسبان حسابات الأرباح والخسائر.
ولنا في الهجوم الإسرائيلي، على مفاعل تموز النووي في بغداد في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، خير دليل على صحة قراءتنا. فلم تتحدث إسرائيل آنذاك عن مشروع للهجوم، بل خططت له في الظلام، وحين أعطى رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك مناحيم بيجن الأمر بالتنفيذ، انطلقت الطائرات الإسرائيلية في تعتيم شامل، وكانت مؤامرة التنفيذ دقيقة وكاملة. وكان على الكيان الصهيوني أن يخوض معركة إعلامية شرسة لتبرير هجومه على بغداد، بعد التنفيذ وليس قبل ذلك.
هذه القراءة ستواجه بسؤال ملح ومنطقي، لماذا إذا هذا الضجيج؟ وما هو الهدف من عودة الحديث عن احتمال الهجوم على طهران في هذا الوقت بالذات؟!.
هنا تبرز عدة فرضيات، تسعفنا بها قراءة المشهد السياسي في المنطقة بأسرها، تقدم لنا أجوبة معقولة لكنها تبقى بحاجة إلى التدقيق والتمحيص. لعل أهمها عقدة خروج الأمريكيين من العراق وأفغانستان، التي أشرنا لها. نلاحظ هنا تزامن هذه الخطوة بأمرين، يبدوان غريبين في سلوك إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أولهما تصاعد التهديدات العسكرية بحق إيران، والثاني، إعلان أوباما نيته توسيع دائرة الحركة العسكرية الأمريكية لتشمل شرق آسيا. وأن الخروج من العراق وأفغانستان سيجري التعويض عنه في أماكن أخرى.
إن إدارة أوباما تسعى للتعويض عن الفشل باستعراض عسكري غير مكلف للقوة، بما يحقق بعضا من التوازن النفسي للمؤسسة العسكرية ويعيد لها الاعتبار.
هذه قراءة رغم منطقيتها، لكنها تبقى في خانة الفرضية.
الفرضية الأخرى، أن المنطقة حبلى بعواصف وبراكين. وأن إيران لها صلة مباشرة بملفات ثلاثة، على الأقل. الملف النووي، وملف المحكمة الدولية ضد قتلة رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، وملف محاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطون. وكلها ملفات ساخنة. والأهم أن إيران تتحالف مع القيادة السورية، التي أصبحت موضع هجوم من قبل أطراف دولية عدة. ولا شك أن من بين أهم الأوراق التي تملكها القيادة السورية، تحالفها مع حزب الله اللبناني وإيران. بالتأكيد لدى سوريا أوراق أخرى مهمة، لكنها خارج سياق موضوع هذا الحديث.
هذه الملفات لا تزال مفتوحة، وجميعها مطروحة أمام مؤسسات دولية. فالملف النووي مُودع لدى وكالة الطاقة الذرية، وقد جاء تقريرها الأخير في غير صالح إيران، يما يرجح زيادة الضغوط على طهران، لفتح منشآتها أمام هذه الوكالة للتيقن من سلمية المشروع النووي الإيراني. وبالمثل، يجري التعامل مع قتلة الحريري، والاتهامات موجهة لأفراد من حزب الله بارتكاب جريمة الاغتيال. وتطورات الأوضاع في لبنان لا تشي بأن حزب الله على استعداد للخضوع للضغوط الدولية. والقول هذا ينطبق على اتهام إيرانيين بمحاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطون، إذ لا يوجد حتى اللحظة ما يؤكد استعداد إيران للتعاون مع التحقيقات التي يقترحها مجلس الأمن، لإجلاء الغموض المرتبط بهذه القضية.
الضغط على إيران للتعامل إيجابيا مع هذه الملفات الساخنة، والسعي لفك الارتباط بين سوريا وإيران، يمكن أن تكون فرضية صحيحة، لتبرير عودة الملف الإيراني مجددا إلى واجهة الأحداث. لكن ذلك لا يجيب بشكل كاف وحاسم على السؤال أزمة الملف الإيراني إلى أين؟! ليس هذا فصل المقال، فالأبواب لا تزال مشرعة للمزيد من القراءة والتحليل في حديث قادم بإذن الله.