رياض نعسان أغا

كان عام 2011 مفصلاً تاريخيّاً في حياة الأمة العربية، وقد شهدت فيه ولادة جديدة بعد قرون من الغياب، إنه عام التحولات الكبرى التي غيرت وستغير الكثير في المنطقة بل وربما في العالم كله، ولعلي أرى الأمر أبعد من سقوط أنظمة وصعود أخرى، فالحدث الأهم هو يقظة أمة وانتفاضتها على الاستبداد بكل أشكاله، بما يوحي بأن استعادة إنتاج الاستبداد لن تكون سهلة حين تترسخ الديمقراطية، وتصير أسلوب حكم وعمل، وقد بدت التباشير فيما تابعناه من إقبال شعبي مدهش على الانتخابات في بلدان عربية لم تكن الانتخابات فيها جادة أو موضع ثقة الناس، وكانت تونس التي شهدت انطلاقة الثورات العربية قد حققت ريادة أخرى في سير العملية الانتخابية وفي تجنب المخاطر حين فوجئ الجميع بحضور قوي لحزب النهضة الإسلامي. وربما كان من حسن الحظ أن يكون خطاب هذا الحزب السياسي والديني وسطيّاً معتدلاً، وأن يكون قادته عقلاء لم يأخذهم النجاح الضخم إلى انبهار أو غرور يحجب عنهم دور الآخرين، فقد جاء خطابهم حكيماً لا يبحث عن نجاح حزبهم وإنما يبحث عن نجاح تونس وشعبها، ويحقق للناس طمأنينة واستقراراً. ويبدو الحال في مصر أكثر تعقيداً، على رغم أن تقدم التيارات الإسلامية في الانتخابات فيها لم يكن مفاجئاً، ولكن الحكمة التي نتوقع أن ينطلق منها الخطاب والتفاعل السياسي مع هذا النجاح السياسي، محوطة بالقلق الذي تحض عليه مجموعات مختلفة في الداخل والخارج، ولاسيما في وجود تيارات إسلامية لا تمتلك خبرة سياسية وقد يصدر عن بعضها خطاب أميل إلى التطرف يقدم الدليل على مبررات القلق. وسيكون الخطاب الإسلامي بعد انتقاله النوعي من الكتب والدراسات والفضائيات إلى ساحة الحكم ومحك التجربة أمام امتحان عسير وبرغم أنه لن يكون الخطاب الأوحد في الساحة الفكرية والسياسية بالطبع، إلا أنه سيكون الأكثر حضوراً في ساحة الرقابة والنقد، فإن أخفق في تحقيق ما يرجوه من انتخبوه، فلن يجد أنصاره ما يدفعهم إلى إعادة انتخابه.

ولا تقتصر تحديات العام الجديد على الأفكار مهما تنوعت وتعددت، فالتحدي المثير سيكون في امتحان القدرة على حمل المسؤوليات وأبرزها معالجة ما حصل في العام الراحل من اضطراب كبير نتجت عنه خسائر اقتصادية كبيرة فضلاً عن توقف كل المشاريع التنموية، وسيستعجل المتضررون من الشلل العام الذي أصاب بنى الدولة عامة في مطالب التعويض، في وقت ينتظر فيه فقراء الناس من الحكومات الوليدة سرعة قياسية في تحقيق نهوض في مستوى الدخل الفردي والقومي، ولن يكون بوسع الحكومات تلبية كل المطالب العاجلة في قفزة سحرية مما سيعرض الحكومات إلى مساءلات برلمانية ستشهد فيها الحكومات ضغطاً كبيراً ونقداً مستمراً، يتنافس فيه النواب لكسب مزيد من الشعبية والجماهيرية، ولاسيما في وجود إعلام مستقل يتابع كل التفاصيل.

وسيكون من أبرز التحديات مواجهة الوهم المسمى قلق الأقليات، ويبدو طريفاً أن يطلب أحد ضمانة من أحد وقد عاشت الأمة في كثير من بلدانها استبداداً عانت منه الأكثريات المسحوقة قبل الأقليات التي تحظى عادة برعاية أكبر وبخاصة من المجتمع الدولي الذي ينظر إليها بعين الرعاية على أنها الطرف الأضعف بينما تبدو الأكثريات أشد ضعفاً وهي تعاني دون أية رعاية في بعض البلدان. ومع ذلك فإن أمام الحكومات الوليدة أن تنجح أمام تحدي القلق الذي أراه غير مبرر ولاسيما في وجود مرجعيات فكرية وثقافية كانت على مر العصور الماضية ضامنة وحاضنة لحقوق الأقليات، وسيكون النجاح التاريخي حين تتمكن الحكومات من إلغاء مفاهيم الأقلية والأكثرية بجعل المواطنة وحدها هوية وانتماء وحين يتساوى الجميع أمام عدالة القانون، وحين ينجح المجتمع الجديد في بناء عقد اجتماعي جديد ينهض على أسس الحرية والديمقراطية، وقد تمكنت دول عديدة في العالم أن تنهي ثنائية الأكثرية والأقلية وثنائيات القوميات والأديان والمذاهب، وحسبنا نجاح أوروبا في اتحادها وتكوين مجتمع الولايات المتحدة الذي يضم جل إثنيات وأعراق البشرية.

وأعتقد أن تحديّاً ملموساً سيواجه الحكومات الوليدة هو إقامة التوازن في العلاقات الدولية ولاسيما مع أوروبا والغرب عامة، والعمل على ترسيخ الشعور بالطمأنينة وبخاصة من قبل الحكومات التي يغلب عليها الطابع الإسلامي، وعلينا أن ندرك قلق الغرب وشعوره بالذهول وهو يرى نهوض الإسلام بعد عشر سنوات من الحملة القاسية التي شنها على الإسلام صانعو الإرهاب الدولي الذين اشتغلوا بكل ما يملكون من قوى سياسية وإعلامية لتحقيق هدف لم يعلن دائماً بصراحة، ولكنه كان شديد الوضوح أمام اللاعبين الكبار في الميدان السياسي وهو إنجاز عالم بلا إسلام، ولا أنكر أن القوى العاقلة في الغرب كانت ترفض هذا الطرح المتطرف ولكن الحملات الإعلامية المنظمة كانت تعمل دون توقف لتشويه صورة الإسلام ولطرده من مجتمع العولمة ومن النظام الدولي الجديد الذي قال بعض منظريه إن العدو الجديد فيه هو الإسلام بعد الشيوعية! وكنا واثقين من أن هذه الحملة الضارية ضد الإسلام ستشد عضده، وستجعل كثيراً من المسلمين الذين لم يكونوا مهتمين بالدين في عصر علمانية الدول، ينتبهون إلى أن دينهم يظلم، وإلى أنهم باتوا مهمشين ومتهمين بالإرهاب أمام الآخر لمجرد كونهم ينتمون إلى المسلمين، وهذا ما جعلهم يعيدون النظر في اتجاهاتهم الفكرية وفي خياراتهم، ولابد أن ما تحققه التيارات الإسلامية من حضور شعبي وارتقاء سياسي قد أصاب أعداء الإسلام بشعور مثير من الخيبة والفشل. وسيسعى هؤلاء الفاشلون إلى نصب الكمائن والفخاخ للتجربة الإسلامية في الديمقراطية كي يفقدوها بريق حضورها عبر جرها إلى معارك وهمية في خطاب إسلامي ملتبس، يميل إلى التطرف وينأى عن الوسطية والاعتدال.

ويبقى التحدي الأخطر أمام الحكومات القادمة أن تستعيد حالة الأمن والطمأنينة التي فقدها الشعب في عام الثورات العربية، فإن أخفقت في ترسيخ الشعور العام بالأمن والاستقرار فإن نتائج الثورات ستكون فوضى مدمرة، وسيسعى أعداء الأمة إلى استغلال كل الوسائل القذرة لإشعال نيران الفتن ولاسيما بين الطوائف التي لا تزال تعيش في صراعات التاريخ القديم، والعجيب أن ينسى العرب المسلمون أنهم خسروا حضورهم في الأندلس وانقض عليهم أعداؤهم وطردوهم من الفردوس الذي فقدوه حين تحولوا من أمة واحدة إلى طوائف تتنازع وتتحارب.