خضير بوقايلة

لمن الدور بعد تونس ومصر؟ إلى أي بلد عربي ستنتقل عدوى الانتفاضة الشعبية التي لا تبقي ولا تذر؟ أسئلة كثيرة من هذا النوع يتداولها الشارع العربي بكثير من التمني والترقب أن يرى بلده يصاب في أقرب وقت بفيروس الالتهاب الشعبي الحاد.
الوباء خطير ولا أحد يمكنه الوقوف أمامه، أصنام تتهاوى كالشمع المحترق والجماهير العربية اكتشفت فجأة أن أولئك الجبابرة الطواغيت ليسوا في الحقيقة إلا أشباحا سرعان ما يخرون تحت وقع الحناجر المدوية الغاضبة. سقوط الطغاة الديكتاتوريين ليس مستحيلا إذن، بل إن الأمر لا يحتاج إلى انقلاب عسكري ولا إلى دعم لوجيستي خارجي. هذا ما صار أمرا واقعا ويقينا عند الشعوب العربية المقهورة والمسحوقة، لكن كيف هو الحال عند الحكام؟ أحد الإخوة سألني قبل أيام هل سيتعظ الحكام العرب مما جرى لديكتاتور تونس الهارب زين العابدين بن علي؟ استبعدت أن يكون ذلك هو حال أي منهم لأن مثل هذه المشاعر لا يمكن أن تراود أشخاصا من تلك الطينة ولو كانت فيهم قابلية للاتعاظ لفعلوا ذلك قبل أن يطبع على قلوبهم. هل رأيتم أو سمعتم حاكما عربيا واحدا من هؤلاء الجبابرة المبغوضين يسارع إلى إعلان إصلاحات من قبيل تلك التي وافق عليها زين العابدين بن علي في لحظات احتضاره السياسي؟ هل نقلت لكم وكالات الأنباء أن رئيسا قرر بعد زلزال تونس حل برلمان بلده أو أعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة أو في أسوأ الأحوال وعد أن لا يترشح للانتخابات المقبلة؟ لم يحصل ذلك ولا تنتظروا أن يحصل في أية لحظة، لأن رحيل هؤلاء الحكام لا يمكن أن يكون إلا بطريقة فجائية عنيفة، تماما مثل الموت تأتي الإنسان على حين غفلة من أمره، يبقى متمسكا بالبقاء إلى آخر رمق من حياته، لا يصدق طبيبا ولا صديقا ولا حتى نفسه وهي تقول له إنه قاب قوسين أو أدنى من اللحد. وعندما يفارق الحياة الدنيا يتحسر على أنه لم يستعد لذلك الرحيل ولم يفعل كذا وكذا. ولو قُدر لأحد المقربين من بن علي أو مبارك أو الذين يأتون من بعدهما أن يكشفوا لنا يوما ماذا كان يحصل في القصور الرئاسية في ساعات السقوط الأخيرة لقالوا لنا إن أصحاب الفخامة كانوا يتصرفون بسذاجة منقطعة النظير، تماما كولد صغير يحترق بيته وهو يبحث عن لعبته دون اكتراث لما يحصل حوله.
أعود إلى سؤال البداية، دور من بعد بن علي ومبارك؟ لا أعرف ماذا يتمنى كل واحد، لكن عني أقول إن أمنيتي أن يأتي الدور عليهم جميعا دفعة واحدة حتى نربح كثيرا من الوقت الضائع وتتحرر ملايين الرقاب بخسائر أقل في الأرواح والكرامة ويتوقف نزيف الخزائن العمومية والثروات العامة بسرعة. لم أقرأ كثيرا من إجابات الحكام الطغاة وأزلامهم حول هذه المسألة، لكني أذكر كيف أن وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط قبل عشرة أيام من اشتعال النار في بيته سخر من الذين سألوه عن احتمال امتداد ألسنة لهب الثورة التونسية إلى مصر وبلدان عربية أخرى، فقال بالحرف الواحد إن مثل هذا القول (كلام فارغ). بعد تونس تسلمت المشعل جماهير مصر وليتنا نسمع قريبا معالي الوزير يعلق على هذا الحدث الفارغ الذي هز بلده. ثم انتقل السؤال إلى الجزائر فلم يجب هذه المرة شخص واحد، بل على الأقل وزيران هما دحو ولد قابلية وزير الداخلية وعبد العزيز بلخادم الوزير الممثل لرئيس الدولة وسفير الجزائر في فرنسا ميسوم صبيح ولويزة حنون رئيسة حزب العمال الداعمة للسلطة باسم المعارضة. كلهم قالوا كلاما لا يقل استخفافا عن تصريح أبو الغيط، قالوا إن الجزائر ليست تونس ولا مصر واستبعدوا أن تعرف الجزائر مثقال ذرة من الحراك الذي مس تونس ومن بعدها مصر. أما حجتهم في ذلك فهي أن الاستياء والاحتجاجات التي عرفتها الجزائر وتلك المرشحة أن تعرفها ليست ذات طابع سياسي، بل هي مجرد تعبير عن غضب شعبي من ظلم اجتماعي سببه البيروقراطية وأزمة السكن والبطالة، أما مطالب المصريين ومن قبلهم التونسيين فكانت سياسية بحتة تدعو إلى إزاحة نظام الحكم ورموزه. وزير الداخلية والآخرون يرون أن الاحتجاجات في الجزائر هي تعبير عن ظاهرة صحية وهي لا تعدو أن تكون صيحات تطالب بسكن ومنصب شغل ورفع ظلم تسبب فيه رئيس بلدية أو رئيس مصلحة في دائرة من الدوائر الحكومية، لا أحد، حسبهم، في الجزائر مستاء من رئيس الدولة ومن النظام الجاثم على صدور الشعب منذ 48 سنة. باستثناء أصحاب الأجندات السياسية، وهم أصلا من الذين لا يجدون لهم في الأرض أية قاعدة شعبية، فإن كل الشعب الجزائري راض تماما عن نظام الحكم وعن مسار العملية السياسية التي يشهدها البلد عبر السنوات والعقود الماضية.
الجزائر، حسب هؤلاء دائما، تتمتع بقدر واسع من حرية التعبير عكس تونس التي كانت فيها الأفواه مخيطة. مثل هذا الكلام سمعته قبل أيام قليلة من زميل مصري وهو يتحدث عن بلده موهما نفسه أن مصر تتميز عن تونس وسورية وليبيا مثل بمساحة معتبرة من حرية الرأي، هناك قنوات تلفزيونية وصحف خاصة وكتاب وشعراء يهجون الحاكم والنظام الديكتاتوري صباح مساء، وهذا في اعتقاده وفي اعتقاد وزير الداخلية الجزائري مجال حيوي للتنفيس الشعبي. في عهد الرئيس اليمين زروال كان وزير الخارجية يجوب العواصم الغربية لنقل وجهة نظر الحكومة حول الأحداث الدموية التي تعرفها الجزائر وكان شديد الحرص على أن يصطحب معه ممثلين عن صحف خاصة ليؤكد للناس هناك أن البلد يتمتع بحرية تعبير واسعة ممثلة في صحف خاصة أو مستقلة تنتقد الحكومة والحكومة تقبل بها وتتحملها تأكيدا منها على إيمانها العميق بالديمقراطية.
أفهمت زميلي المصري أن ما يقوله هو فخ نصبته حكومات بعض البلدان الغارقة في الممارسات الديكتاتورية وهي تحاول أن تلبسها قناعا ديمقراطيا زائفا. صحيح أن هناك صحفا كثيرة في مصر والجزائر تقول إن البلدين يعيشان تحت وطأة حكم ديكتاتوري وكل يوم تطلع علينا هذه الصحف بعشرات القصص عن مآسي الظلم والمهانة التي يتعرض لها المواطنون هنا وهناك، لكن هل بمثل هذا الكلام مهما كان قاسيا وجارحا وصريحا نقول إن البلد ينعم بحرية التعبير ويرفل في أثواب الديمقراطية؟ هل الديمقراطية معناها أن نقول ونسمع ونقرأ في صحف محلية أن الجزائر تحكمها طبقة من اللصوص، وأن الفساد يعشش في أركان الدولة من قمتها إلى آخر دائرة في أقصى الصحراء؟ وهل الديمقراطية تعني أن نقول أو نكتب أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية مزورة وأن البلد يعاني غلقا إعلاميا وسياسيا؟ وهل الديمقراطية وحرية التعبير هي أن نقول أو نكتب أن غالبية الشعب تعاني من سوء المعيشة والبطالة وأن الانتحار والارتماء في أحضان البحر صارا ملجأ لليائسين من خيرة شباب البلد؟ وهل الديمقراطية تعني أن نكتب أو نتحدث عن مئات القصص المتعلقة باختلاس الأموال العمومية والتسلط والتعسف في استعمال السلطة؟ وهل الديمقراطية هي أن يظل الناس طيلة عشرين سنة ينتقدون حالة الطوارئ المفروضة في البلد ويدعون إلى رفعها؟ لا ندري إن كانت السلطة وصلت في الجزائر إلى حد بائس من السذاجة السياسية أم أنها تضحك على الشعب عندما تكرر لنا على لسان مختلف مسؤوليها وأزلامها في الأحزاب والجمعيات والمنظمات المنبطحة أن الجزائر تتمتع بقدر واسع من حرية التعبير وأن الناس بوسعهم أن يتكلموا ويصرخوا وينتقدوا ويكتبوا ما يشاؤون حتى الكلام الجارح ضد المسؤولين وأن يحرقوا ويخربوا دون أن يمسهم أي أذى. ماذا ينفعنا أن نقول ونكرر كل يوم أن النظام في البلد غير شرعي أو أن الانتخابات مزورة أو أن المسؤولين وأولادهم لا يتورعون عن التهام أموال الشعب بغير وجه حق وأن ننادي وننادي برفع حالة الطوارئ وفتح المجال السمعي البصري وتحرير العمل السياسي وفسح المجال أمام الأحزاب السياسية الحقيقية للعمل الرسمي، ماذا ينفع الشعب أن يقول ويكرر هذا الكلام من دون أن يجد له أي صدى على أرض الواقع، إذا لم نقل إن الأوضاع تزداد سوءا؟ أية ديمقراطية هذه التي تسمح للشعب أن يتنفس بينما السلطة مستمرة في غيها وظلمها واختلاسها لإرادة الناس؟ أية ديمقراطية هذه التي نقول فيها إن الدستور يضمن لكل مواطن الحق في التعبير وفي الشغل وفي الحياة الكريمة وفي اختيار من يحكمه وفي الحصول على قضاء عادل ومستقل بينما الواقع عكس ذلك تماما؟ أية ديمقراطية هذه التي تتحكم فيها مجموعة من الأفراد بغير وجه حق في رقاب الناس والشعوب لعقود طويلة من دون أن تفكر يوما أنها ليست حاملة لوكالة ربانية وأن هذا البلد ليس ملكا خاصا بها وأن الجماهير المسحوقة تحت أقدامها إنما هم بشر مثلهم لهم الحق هم كذلك أن يستفيدوا من خيرات البلد وأن يحلموا يوما بحياة كريمة وبمنصب شغل شريف وفرصة في الترشح لنيل أصوات الشعب وخدمتهم في كل مستويات المسؤولية؟
الحكام أعمتهم السلطة والخشية أن يستيقظوا يوما فيجدوا البركان انفجر في وجوههم ولا يجدون أمامهم إلا طريق المطار والهرب من البلد، لكن حتى هذه قد لا يجدونها مفروشة بالورود حسب المحامي الدولي سعد جبار الذي قال لي يوما إنه حذر عددا من ممثلي الحكومات العربية التي كانت تحاول إجبار البلدان الغربية الديمقراطية حقا بضرورة تعديل قوانينها الخاصة بالهجرة واللجوء السياسي طمعا في منع معارضيها من الحصول على مكان آمن هنا أو هناك. المحامي الذي كان يدافع عن عدد من اللاجئين العرب قال لممثلي الحكومات لا تحاولوا فرض مثل هذه التعديلات لأن الدائرة قد تدور عليكم وتأتوا فارين إلى هذه البلدان فتجدون أن قوانينها لم تعد تسمح لكم بالمقام هنا بسبب اقتراحات وضغوط كنتم أنتم وراءها.